الإبقاء على الدستور والمؤسسات صمام أمان للمجتمع والدولة
في الوقت الذي ساد النقاش حول المقترحات العديدة للخروج من المأزق المؤسساتي الذي وقعت فيه الجزائر بعد استقالة الرئيس بوتفليقة وفي ظل اختلاف التصورات حول الانتقال السياسي اقتربنا من المحامي وأستاذ العلوم السياسية عامر رخيلة لاستضاء بعض الجوانب المتعلقة بتطور الحراك ومخرجاته والتوجهات المطروحة للحل السياسي والدستوري فكان لنا معه هذا الحوار
تجاوز الحراك أربعة أشهر متطورا من مرحلة إلى أخرى كيف تنظر إلى هذا التطور؟
الحراك بالنسبة لي يمثل نقطة مفصلية في التاريخ المعاصر للجزائر فقد صارت الآن حقيقة تاريخية والفضل يعود للحراك في المتغيرات التي مست الساحة السياسية والدستورية والثقافية والمجتمعية من خلال تغير الذهنية، والمواطن أحس وكأنه أعيدت له الكلمة واسترد سلطته وخرج المجتمع الجزائري من حالة اللامبالاة لدى قطاع واسع من الناس إلى مرحلة الفاعل الرئيسي في المتغيرات التي حصلت في المجتمع. هذا نقرؤه قراءة إيجابية. يمكن لأي ملاحظ أن يرى كيف تغيرت علاقة المواطن بالسلطة بعدما كانت هناك هيبة للسلطة والتبعية لها وكانت هناك مجموعات تشكلت وأصبحت بؤرا نافذة ومتنفذة ومؤثرة في القرار السياسي والاقتصادي وحتى القرار الثقافي. يعود الفضل لمكونات الحراك ولمطالب الحراك والشعارات التي رفعت وشمول الحراك كامل التراب الوطني وإن كانت مدينة الجزائر حققت إنجازا كبيرا حيث تمكن الحراك من أن يسقط تلك الموانع لحرمان الجزائريين ككل شعوب العالم من استغلال عاصمتهم للتعبير الشعبي عن الإرادة والمواقف السياسية ليس بالضرورة المعادية منها للنظام أو الرافضة له. الشيء الذين كان الجزائريون محرومين منه ليس بقوة القانون فحسب إنما بهيمنة السلطة التي تدرك أن العاصمة هي القاطرة التي تقود المجتمع. لكن الظاهر أن هناك مجموعة من الجزائريين كانت تشتغل منذ سنة 2014 بعمل منظم قاعدي عن طريق الاتصالات وتكوين مجموعات حققت إنجازا كبيرا لم يسبق لأي دولة أن حققت حراكا شاملا لجغرافيتها في آن واحد وبشعارات موحدة تقريبا.
ألا ترى أن الحراك انقطع نفسه إلى حد ما ولم يعد بذلك الزخم الذي عرف به الأسابيع الأولى من انطلاقه؟
أن يتحقق في دولة فيها أكثر من مليوني كيلومتر مربع في جهاته الأربع وولاياتها الثماني والأربعين وحتى خارج الوطن حراك في مستوى الحراك الجزائري من حيث الكم حيث وصل عدد المشاركين حسب تقديرات عديدة إلى 21 مليون مشارك من مختلف الأعمار والمستويات والتراكيب المكونة للمجتمع الجزائري السياسية والجمعوية والثقافية. هذا العمل ليس باليسير فهو نقلة في العمل الجمعوي الجزائري لأن هذه المشاركة الضخمة التي لم تسجل صدامات ولا اغتيالات ولا انزلاقات كبيرة ليس من السهل أن يتصورها أي ملاحظ وما يمكن أن يسجل على الحراك تلك الوحدة في الشعارات المنصبة في مناهضة السلطة القائمة والتطلع لغد أفضل والتطلع للتغيير في الوجوه والسياسات. فالحراك كعملية شعبية أنتج أدبيات لها صدى لدى الشارع الجزائري قد لا يكون بنفس الشدة لدى الأجانب وهذا ما يدل على أصالة هذه الشعارات والشباب الذين أنتجوا هذه الشعارات هم شباب يتسمون بوعي وبقدرة وإمكانيات فكرية وسياسية معتبرة ويمكن أن نضيف أن الحراك لم يكن متحفظا في تعامله مع السلطة وكذا الانسحاب الصامت للقوى السياسية التي كانت ممنوعة من الشارع سواء بتراكيبها أو بتنظيماتها أو بروافدها ولم يعد لها تأثير في الأحداث إلى جانب ذلك لاحظنا اندماج بعض التنظيمات التي كانت مؤطرة في جمعيات تابعة للسلطة ومستفيدة من ريعها ومع ذلك لما نادى منادي الحراك التحقت. وأصبح الجمعة بالنسبة للجزائريين موعدا للمشاركة الواسعة والمشاركة الأسرية وكأن الشعب الجزائري استعاد الروح القديمة التي كانت سائدة بين 1954 و 1962 فوحدة الهدف أدت إلى تجاوز التعددية التنظيمية والفكرية والسياسية والمذهبية والجهوية. وعكس ما يعتقد فالحراك لم يكن عفويا ولا أؤمن أن عملا جماعيا بهذا المستوى يكون عفويا بالعكس لابد من الإقرار لهؤلاء الشباب الذي يعمل لزمن طويل تحضيرا لليوم الموعود ولعل ما ساعد على ذلك انتشار وسائط التواصل الاجتماعي الذي قرب المسافات بين أفراد الشعب الذين يسكنهم نفس الهم والكل متفق على التعبير عن النقمة من الوضع القائم على الصعيد السياسي والاجتماعي والمفاهيمي ولا على صعيد القوى المؤثرة.
ألا ترى أن الحراك ظل قوة رافضة تدرك ما لا تريد ولم تنتقل إلى قوة اقتراح تعرف ما تريد؟
نحن نتحدث عن حراك جماهيري متفق على هدف واحد وإن لم تكن منطلقاته واحدة فأن تجمع بين المتناقضات وتحدث فيها تنازلات من حيث الشعارات والتوحد تحت يافطة واحدة وهي التغيير ورفض النظام القائم والدعوة إلى الانتقال بالعمل التنظيمي والجمعوية من مرحلة إلى مرحلة وفق أهداف مشتركة وهي رفض النظام القائم إلى درجة أن بعض القوى التي كان يعتمد عليها النظام اندمجت لكونها لم تكن مستفيدة من ريع السلطة. كل هذا يمكن قراءته قراءة إيجابية فهو يعيدنا إلى فترة الثورة التحريرية حيث كانت هناك تيارات سياسية انصهرت في بوتقة واحدة لما دقت ساعة الثورة تخلت مؤقتا عن طروحاتها وانتماءاتها وحساباتها الحزبية والاجتماعية واندمجت في هدف واحد. والخلاصة أن حراكا جماهيريا غير مؤطر ويصعب تأطيره وتمثيله يصعب عليه الاتفاق على برنامج معين وقوته تكمن هنا. ولم يكن الحراك يتوقع أن يأخذ الجيش زمام الأمور وانتهاج منهج من شأنه أن يتلاقى بشكل أو بآخر من مطالب الحراك وأن تأخذ الإجراءات ضد الفاعلين الرئيسيين في النظام المالي والاقتصادي والسياسي وأن يتم اتخاذ إجراءات قضائية إزاء هؤلاء الأشخاص والفضل يرجع للحراك الذي احدث تغييرا في الذهنيات والإحساس بقيمة الفرد ودوره في المجتمع. بالمقابل أكد النظام هشاشته أمام الضربات الأولى وعدم تجانسه إذ أن ما يلتقي حوله وهو الريع صار مهددا بعد إيداع رموز القوى المالية وبعد أن امتدت يد العدالة إلى أشخاص نافذين وبمنأى عن كل متابعة يمكن أن نقول إن إمكانية التغيير صارت قائمة والحراك كالمتسابق ينطلق بنفس قوي وتزداد حركته لكن من الطبيعي أن يبدأ في التباطؤ لأن عيب الحراك يكمن في العفوية وعدم التنظيم والتمثيل فكل عمل غير منظم وغير مؤطر يكون نفسه محدود وعامل الزمن كفيل بالتقليل من شأن الحراك وظهور محاولات الاختراق والتوجيه وظهور بعض التناقض في المطالب وتكوين تجمعات فرعية تطرح في طروحات أخرى عقائدية وثقافية وسياسية وجهوية وقيادة الجيش كانت تدرس فيها وتتعامل معها بروية وكان لها اليد في خلق توجهات داخل الحراك وهذا شيء طبيعي إذ لا يمكن أن نتصور أن السلطة تظل متفرجة على أمور تحدث أمامها بل تتدخل لترجيح موقفها على المواقف الأخرى المسيطرة وقد وجدت في المجتمع من يتبنى مواقفها خارج الأطر التقليدية المرفوضة لدى الحراك وغير المؤهلة للتغير بسرعة ومسايرة القوى الموجودة لذلك فابتعادها وركونها للهدوء وعدم مشاركتها لا سلبا ولا إيجابا في الحراك قدمت خدمة للحراك وجعلت نتائجه لا دور لها فيها.
اليوم برزت عدة اتجاهات للحل كيف تنظر إلى مائدة الحلول المقترحة لحل الأزمة؟
هناك بعض القوى أدركت أن الاستمرار على هذا الوضع لا يخدم مصالحها على مستوى السلطة فقرأت قراءة صائبة لما يحدث وتمكنت عن طريق وسائل الإعلام وإدارتها أن تتجه وجهة تقلل من شأن التوجه نحو المرحلة الانتقالية الذي كان مهيمنا في البداية وهو الحل خارج الإطار الدستوري وقد تبلورت أكثر من عشر مبادرات في هذا السياق أبرزها وأشهرها وأولها هو تصور بعض الإخوة الناشطين الذين نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الحراك الذي يتمثل في تكوين قيادة من مجموعة من الأشخاص تستلم السلطة وسبق لي أن تحدثت معهم كأصدقاء منهم مصطفى بوشاشي ومقران أيت العربي وقلت لهم أنتم مفعمون بكثير من الرومانسية والطوباوية. وهناك رأي يقول بوجوب العودة إلى المسار الدستوري مع العلم أن دستور 2016 يصلح لكل شيء إلا أن يكون دستورا فلا هو بدستور برنامج ولا هو بدستور تأسيس ديمقراطي ضابط فهو هجين. هذا الدستور يمكن الاستغناء عنه لو كانت هناك مرحلة انتقالية واضحة المعالم بمؤسسات معلومة وفترة زمنية محددة والإخوة الذي يرون واجب المرحلة الانتقالية بهيئة وطنية نطرح لهم السؤال كيف تتكون هذه الهيئة الوطني؟ هل تكون عن طريق الانتخاب أم التعيين وعلى أي أساس؟ هناك من يقول إنه يكفي أن بعض الشخصيات تحظى بتزكية الحراك لكننا رأينا الحملات الإعلامية التي استهدفت وجوها كثيرة كانت ناشطة وبارزة وهذه مؤشرات على أن حظوظ المرحلة الانتقالية ضئيلة وتكاد تكون منعدمة فالذين ينادون بمجلس تأسيسي نقول لهم كيف يتكون هذا المجلس فهو يحتاج إلى دستور وانتخابه عن طريق الاقتراع العام السري. ثم هل يمكن الاتفاق بسرعة حول المبادئ الأساسية للمجتمع الجزائري من حيث اللغة والعقيدة والنظام السياسي ومكوناته تأكد أنه من السهل فتح هذا الملف لكنه من الصعب الوصول إلى اتفاق لكي لا أقول الإجماع على أي وثيقة دستورية. قناعتي منذ البداية ولا تزال قائمة هي أن مفهوم المرحلة الانتقالية جذاب لكنه يفتقر إلى الآليات العملية لتجسيده ولعلمك فإن المرحلة الانتقالية تفيد السلطة القائمة لأنها تمدد من عمرها لكنها بالمقابل لا يمكن أن تعهد بالسلطة إلى مجموعة من الأشخاص لا يتمتعون بشرعية دستورية.
لكن الجزائر عرفت في التسعينيات المرحلة الانتقالية وقد دامت 3 سنوات..
الوضع في التسعينيات يختلف عنه في الوقت الحالي ففي التسعينيات كانت الجزائر في حرب أهلية وكان الجيش بمثابة السلطة الفعلية والحقيقية بالنظر إلى الوضع الأمني الذي كانت تمر به البلاد فالتعبير عن الرأي في تلك المرحلة غير موجود ولم يكن هناك حراك بل كانت الناس تدخل إلى بيوتها ابتداء من السادسة مساء بينما اليوم نجد الشارع مؤثرا ومتحررا وسلطة لم تلجأ إلى العنف وإن كانت قد اتخذت في المدة الأخيرة إجراءات ردعية فالمرحلة الانتقالية اليوم أصعب من التسعينيات حيث كانت السلطة هي التي أطلقت المرحلة وتحكمت فيها وكان التمثيل فيها خارج القوى المناوئة للسلطة مقتصرا على أحزاب وجمعيات مؤيدة للقيادة الموجودة وكانت بمثابة ترميم أمام الرأي العام الدولي بشبه مؤسسات في فترة حرب. والمرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى تصوراتها المتعددة فإنها لا تلقى الإجماع وتقتضي إلغاء جميع المؤسسات القائمة اليوم من دستور وبرلمان وغيرها والدخول في القواعد العرفية حيث تخضع المؤسسات القضائية لأوامر عرفية في غياب الدستور الحامي للحقوق.
لكن هناك من يقول إننا في مرحلة انتقالية لم تعلن فقط عن اسمها بالنظر إلى جمود المؤسسات من حكومة وبرلمان وغياب شبه تام لرئيس الدولة..
أشاطرك الرأي أن المؤسسات القائمة مجمدة ولا تأثير لها لكنها تشكل صمام أمان أمام أي فراغ وبغيابها تفقد خط الرجعة وتضع المجتمع أمام المخاطر نفس الشيء بالنسبة للدستور فوجود الدستور في حد ذاته كوثيقة مرجعية رسمية رغم المآخذ المسجلة عليها والنقائص التي تعتريها.
ما رأيك في “الفتوى” التي أصدرها المجلس الدستوري عند إلغاء انتخابات 4 جويلية؟
في قرار المجلس الدستوري الأخير بشأن إلغاء الانتخابات نجد المجلس ذهب مذهبا آخر غير مطلوب منه في تلك المرحلة أن يدعو رئيس الدولة إلى استدعاء الهيئة الناخبة مرة أخرى بينما المفروض أن المجلس الدستوري بعد أن فصل في عدم إمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية بسبب عدم وجود ملفات للمترشحين يقف عند هذه النقطة وينتظر إلغاء رئيس الدولة مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة وإخطاره من جديد لتقديم الرأي والفتوى وهنا يجلس المجلس الدستوري من جديد ويقدم رأيا لرئيس الدولة لكنه جمع بين الاثنين. لماذا لم يصدر رئيس الدولة مرسوما يلغي بمقتضاه مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة؟ المسألة في تقديري تتعلق بربح الوقت وهنا ينتظر من رئيس الدولة في 9 جويلية الجاري إصدار مرسومين أحدهما يلغي به مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة والآخر يستدعي به الهيئة الناخبة من جديد لكن الرؤية لم تتضح بعد لاسيما وأن وزير الاتصال السابق عبد العزيز رحابي أصبح يلعب دورا للتعبير عن شيء بعبارتين متناقضتين وهو الذي كان ينادي بالمرحلة الانتقالية لكنه يبدو أنه غير رأيه فإما أن يكون قد أقنع من قبل دوائر السلطة بوجود اتخاذ هذا الإجراء أو أنه له طموحات سياسية تتجاوز مجرد إدارة حوار سياسي أو تولي مهام قيادة حكومة جديدة إلى ترشيحه لرئاسة الجمهورية.
كيف سيكون مصير بن صالح بعد 9 جويلية؟
السلطة القائمة اليوم لن تجد أحسن من بن صالح فالرجل كان دائما إمعة ولم تكن له مواقف مستقلة ولا رأي ولا طموح خارج إضافة إلى أنه في وضع صحي دقيق وهما سببان لا يؤهلان بن صالح لأي مهمة لما بعد مهمته كرئيس دولة وحتى فترة 90 المقبلة سيقضيها في حالة نقاهة ولن يكون لنا رئيس دولة اللهم في مسألة التوقيع. وسيكون رئيس الدولة الفعلي إما الوزير الأول أو الأمين العام لرئاسة الجمهورية. ويبقى الحاكم الفعلي هو رئيس أركان الجيش قايد صالح وسنشهد تراجعا لجميع القوى المناوئة لرؤية الجيش. فعدم المسايرة يعني التهميش وفق القاعدة المألوفة في الجزائر. في تقديري ستسعى السلطة لاستمالة الأحزاب ذات التأثير في الشارع القبائلي لأنها لا تريد الذهاب إلى انتخابات بمقاطعة منطقة معينة.
حاوره احسن خلاص