قالت الأستاذة الجامعية مليكة بن دودة إن الجزائر كانت أمام فرصة كبيرة للنهوض بالفعل السياسي في الوطن وبخاصة أن الظروف الأمنية والاقتصادية كانت مواتية جدا وبدأ البلد يعيش نوعا من الاستقرار المالي والأمني، لكن للأسف لم ينتصر النظام لتحريك الفعل الديمقراطي.
• نحن على بعد شهرين من الرئاسيات هي السادسة في عمر التعددية، ماذا قدمت الانتخابات للديمقراطية في الجزائر ؟
أفضل أن نقول ماذا لم تُقدم؟.. لقد تمّ تكسير البنى الأساسية للعمل الديمقراطي وهي الأحزاب السياسية خاصة من خلال ما سمي بالتحالف الرئاسي. لقد تحول الحزب السياسي إلى باخرة راكضة كما شاء لها النظام السياسي منذ الاستقلال، فقد كانت أمام الجزائر فرصة كبيرة بعد العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة للنهوض بالفعل السياسي في الوطن وبخاصة أن الظروف الأمنية والاقتصادية كانت مواتية جدا وبدأ البلد يعيش نوع من الاستقرار المالي والأمني، لكن للأسف لم ينتصر النظام الحالي لتحريك الفعل الديمقراطي، بل “عادت ريمة لعاداتها القديمة” ولكن باستحداث تقاليد سياسية جديدة لم تعرفها الجزائر من قبل.
• هل تُعتبر الانتخابات في الجزائر آلية من آليات التغيير، أم أنها مساهمة في ترسيخ الوضع القائم ؟
أيُ تغيير؟.. الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه الساحة السياسية الآن جعل من جنرال ظهر من العدم، أن يُصبح مرشحا إعلاميا مهما، وكأن هذا البلد ليس له ماض ديمقراطي وتقاليد سياسية وحزبية، في ظل تنامي هذا الفراغ السياسي أصبح “شبح الرئيس” أكثر طُمأنينة لمجموعة مهمة من الناس بدل البحث عن التغيير والمراهنة على المجهول، والمجهول هو كل ما يقدمه بقية المترشحين، وسيبقى الحال كما كان من قبل فما تسفر عنه الانتخابات لا علاقة له بالتغيير.
• ذهل مراقبون لعدد مستخرجي استمارات الترشح من وزارة الداخلية، حيث فاق عددهم 100 مترشح إضافة إلى غرابة مواقفهم.. أي صورة يمكن تقديمها بهذا الشكل للاستحقاق الانتخابي ؟
باستعمال لغة الفلسفة يُمكن الحديث عن العبث، وباستعمال لغة الفن نحن أمام كوميديا هزلية، أما بلغة السياسة فيمكن الحديث عن تتفيه العمل السياسي من خلال إبراز عبثية المقدمين على الترشح إلى أهم منصب في البلد، منصب ارتبط بالقدسية السياسية لسنوات عدة، إن إبراز تفاهة المُترشحين ضروري لخلق الخوف والقلق المناسبين للدفاع عن الاستمرارية. لترسيخ فكرة أساسية لدى المواطن أن الإبقاء على الوضع القائم أرحم بكثير من هذا العبث المعروض.
• كيف تقيمون الخطاب السياسي الذي يسبق الحملة الانتخابية للرئاسيات؟
يبدو خطابا سياسيا متوترا إلى حد بعيد، وفيه الكثير من الارتجالية والعفوية، تنم عن نقص واضح في الاحترافية، مؤشرات توضح أن الكل منساق وراء حالة ملتبسة، والمواطن يستشعر بحدسه هذه الضبابية، وهذا ما يزيد من ابتعاده عن المشاركة السياسية. فالخطاب غير واضح ومُرتبك ومُربك وهذا ما يدعو للقلق. فلا خطاب دعاة العهدة الخامسة واضح وقوي كما كان في العهدة السابقة ولا خطاب المعارضة مقنع واحترافي. في الحقيقة لا يمكن أن نقول أنّ المواطن يحمل خيارات حقيقية وهذا ما يفقد لحدث الرئاسيات صبغته السياسية الحقيقية، فهو سياسياً فقد معناه.
• نشهد غيابا شبه تام للمواطن عن الممارسة السياسية، كيف يمكن إحداث القطيعة مع هذا الواقع السلبي؟
ابتعاد الجزائري عن الممارسة والمشاركة السياسيتين ليس بالأمر “المُحدث”، فالجزائري يمقتُ السياسة وأهلها، خاصة وأن الإحكام المُسبقة التي يحملها الجزائري حول السياسة والسياسيين قد تعززت وازدادت حدة في السنوات الأخيرة : فهو يعتبر أن السياسة هي ميدان الكذب والنفاق والنهب وأي ابتعاد عنها هو الحكمة بعينها، حتى النخب تُقاطع العمل السياسي، وتعتبره غير آمن وغير مُستقر، هناك شخصيات تُعيّن بسرعة ويتمّ التخلي عنها بسرعة من دون معرفة الأسباب ولا حتى الظروف التي يحدث فيها كل هذا. حدثت طفرة معينة في التاريخ السياسي المعاصر بعد 1988، والانفتاح الديمقراطي الذي حدث لكن الكل يعرف كيف انتهى ذلك التفاؤل، بعدها لم يعد الجزائري يثق في الممارسة السياسة ولا في الانفتاح الديمقراطي وهو يعيشها باعتبارها تهديدا لأمن البلاد والعباد. وهذا هو المأزق الحقيقي الذي تعيشه البلد.
• تعيش الساحة الوطنية على ثلاثة شعارات، وهي: الإستمرارية، القطيعة، التوافق.. ما هي الأقرب للتحقيق وفق نظركم ؟
أظن أن العهدة الخامسة هي زائدة وفوق الحد: « de trop» ، لكن الاستمرارية هي الأرجح في ظل الفراغ السياسي الموجود في المعارضة، و” تروما العشرية السوداء” التي عانى منها الشعب عامة والفشل السياسي الكبير للثورات العربية، لذلك تفرض “الاستمرارية نفسها من دون خيارات”.
• انقسم موقف المعارضة بخصوص التعامل مع الرئاسيات، بين مشارك ومقاطع ومدعم لمترشح معين.. من هو الشعار الأقرب للتمرير بداية من عام 2019 ؟
يبدو أن موقف المُدعمين هو الثابت والأوضح، أما المقاطعون فقد أبدوا تشاؤمهم بسرعة ورفضوا المشاركة في هذه اللعبة أما المشاركون فالأفضل لهم طبعا أن يتوافقوا على مُرشح واحد، لكن في ظل العبث القائم كل هذه المفاهيم تفقد واقعيتها وأستبعد أن يكون هناك توافق.
• منذ إعلان جنرال متقاعد اسمه علي غديري تقدمه للانتخابات الرئاسية، إلا وهو حديث وسائل الإعلام والصالونات السياسية، هل خلفيته العسكرية لعبت دور في إخفاء مواقفه السياسية ؟
ظهر علي غديري، على أنه المُترشح القادر على خلط أوراق الاستمرارية، لكن ومع أولى الحوارات التي قدّمها للإعلام لم تظهر فيه “الكاريزما” الحقيقة ليلبس بدلة الرئيس، لا أظن أن خلفيته العسكرية هي السبب، فالتاريخ يعرف أن الرئيس الجزائري الأكثر بلاغة وكريزما هو العقيد هواري بومدين كذلك بعض الجنرالات الذين اقتحموا مجال السياسة كانوا متحدثين جيدين خاصة خالد نزار. أظن أن لغديري لم يكن مهيئا كما يجب لخوض هذه المغامرة وهذا ما يظهر من خلال حملته الإعلامية على الأقل.
• لماذا يجتمع الإسلاميون دائما على قلب رجل واحد عندما يتعلق الأمر بمسألة إيديولوجية، لكنهم لم يستطيعوا تقديم مرشح واحد توافقي يدخلون به غمار الرئاسيات ؟
منطق السياسة يختلف عن منطق الايديولوجيا، السياسة في أصلها “الفلسفي -السياسي” هي قدرة مجموعة من الناس على العمل معا من أجل هدف واحد وهو خلق جزائر تتسع للجميع، لكن هذا بالضبط ما فشلت فيه الأحزاب السياسية الجزائرية أما الأحزاب الإسلامية سواء في الجزائر أو في العالم العربي كله أثبت أنها قوة انتخابية نظرا لإيديولوجيتها الدينية التي تستعطف الشعوب لكنها لم تكن يوما قوة سياسية فهي تحمل منطقا يعادي العالم الذي يتسع للجميع على اختلافهم، وهذا ما أشار إليه “ميكافيلي” في كتابه الأمير عندما قال: “لا تدخلوا هؤلاء إلى ميدان السياسة”.
• عاد الجدل حول “تسييس” المدرسة، بعد تصريح وزيرة التربية عن “منع الصلاة في المدارس”، هل محكوم على التلميذ الجزائري البقاء بين حبل التجاذبات الإيديولوجية ؟
نعم، سيبقى كذلك ولمدة طويلة جدا، فقد كانت مسألة التربية والتعليم ومنذ سنوات مسألة إيديولوجية بامتياز، لقد عمل النظام الجزائري بعد الاستقلال على “أدلجتها” لتمرير ما يُسمى بمعايير الدولة الوطنية الحديثة التي ربطت بين الهوية والتشابه identité et l’identique، لتقضي بذلك على تنوع المجتمع الجزائري خاصة من خلال إقصاء بعده الأمازيغي وتكريس بُعده العروبي من خلال مناهج تربوية ضعيفة لا تخدم الذات الجزائرية الغنية بثقافتها وتاريخها، الذي يحدث من خلال الإصلاحات الحالية أنها تحاول إخراج التلميذ الجزائري من قيم الإقصاء التي ولدت كزنوفوبيا وانغلاقية دوغمائية حجرت تفكير أبنائنا، فالتلميذ ورغم تكتيف تحصيله في التربية الدينية والمدنية والنصوص الأدبية لم يظهر بقيم تسمح له أن يكون مواطنا حقيقيا معتزا بذاته ومنفتحا على الآخر. إن فشل المدرسة الجزائرية هو أكثر ما فشلت فيه الجزائر المستقلة، كما أن الترسبات التي تشكلت في قطاع التربية منذ سنوات حولت المدرسة اليوم إلى معركة حقيقية، إنها معركة المحافظين المقاومين للتغيير، معركتهم الأولى والأخيرة، ولا أراهم متنازلين عنها، فالشارع يتحدث عن بن غبريت وخرجاتها أكثر مما يتحدث عن الاستحقاق الرئاسي.
حاورها : إسلام كعبش