نظمت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، نهاية الأسبوع الماضي، مؤتمرها السادس وخصصته هذه المرة لموضوع ثقافة العيش المشترك. ولو أن الملتقى الذي استضاف متدخلين من المغرب وتونس ومصر والسودان ولبنان لم يجذب إليه اهتمام السياسيين وحتى أسرة العلوم الاجتماعية والإنسانية الكبيرة وبقي إلى حد كبير حبيس مناقشات فلسفية أكاديمية بين طلبة وأساتذة الفلسفة أغلبهم من جامعة الجزائر إلا أنه جسد صوت العقل.
لنعد إلى الموضوع بذاته، العيش المشترك، وهي عبارة رنانة جذابة لا تترجم نزوع الإنسان إلى الاجتماع في زمن طغت فيها مقتضيات الانزواء والفردية لدى الإنسان الحديث فحسب، بل تحيلنا مباشرة إلى الإشكالات المطروحة على واقعنا اليوم وعلى جميع المستويات ونحن نعيش عودة النزاعات وتعدد مصادرها من عرقية ولغوية وطائفية ودينية بعدما كان أغلبها في وقت مضى ذا بعد سياسي وإيديولوجي وطبقي.
تعددت، إذن، أسباب الموت الذي يتربص بنا اليوم لكن الضحية واحدة وهي هذا المفهوم الجميل الرنان، العيش المشترك. وكان قد تعرض للتهديد في كم من مرة، كان هذا التهديد شديدا ومخيفا جدا إثر انفتاح الجزائر على تعددية سياسية شديدة الاندفاع نحو تكريس خارطة سياسية تترجم التنوع الموجود في الهوية الجزائرية فقد أفصح الجميع أنه غير مستعد للتعايش مع الآخر واقتسام أفراح وأحزان الوطن الواحد دون أن تكون للمقطع الذي يمثله من الهوية الوطنية المكانة المرموقة التي ينبغي لها كحق لامشروط. فقد رأينا في شوارع العاصمة الجزائر والمدن الكبرى مسيرات شعارها أن “لا جزائر دون أمازيغية” وأن “لا جزائر دون الإسلام” وأن “لا جزائر دون العروبة” وشعارات أخرى تضاهيها ملتصقة بمكونات الهوية الوطنية. غير أن لا أحد أدرك أنه متفق مع الآخر على شعار واحد وهو “لا جزائر“.
كلفتنا تلك الاندفاعية في ممارسة أولى خطوات التعددية بعد عقود من الكبت عشرية دموية رهيبة اهتدينا بعدها إلى أن الخلاص إنما يكمن في الطلاق مع الصراع الإيديولوجي والهوياتي للانصراف نحو ترميم تصدعاتنا وإضماد جروحنا.
لكن، ها نحن نعود اليوم لنعيش نزالا جديدا، يبدو أنه أكثر تعقيدا هذه المرة فقد كان النزال الهوياتي منذ ما يقرب من 30 سنة يتشكل في ثنائيات يغلب عليها الطابع السياسي والإيديولوجي والثقافي مثل الصراع بين المكونات اللغوية العربية والأمازيغية والفرانكفونية وما يحمله من أسئلة
الانتماء والصراع الإيديولوجي بين الاشتراكية والليبرالية وبين الأحادية والديمقراطية وبين الأصولية التيوقراطية والعلمانية كانت ثنائيات لم تلجأ فيها إلى العنف المادي إلا ثنائية الأصولية والعلمانية.
هذا النزال الجديد ينذر بخطر أكبر ويهدد الكيان الجمعي تهديدا رهيبا فقد تعددت دوافعه وتعقدت تركيبته وتشعبت فروعه. وأخطر ما فيه هذه المرة أنه يتغذى بذخيرة مستوردة ويتجه ليصبح نزالا على أرض الجزائر وبيد الجزائريين نيابة عن أطراف خارجية تصفي حساباتها الجيو– سياسية في عالم متوتر مفتوح على كل الصراعات والحروب الإقليمية والدولية.
منذ ما يقرب العام، طفت مشاهد على السطح الجزائري لم تكن لتبرز لولا هذه الموجة الجديدة من الصراعات الإقليمية والدولية. نذكر من المشاهد بعضها على سبيل المثال لا الحصر. فقد رافقت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر في ديسمبر من العام الماضي موجة استنهاض للكراهية والعداء تجاه فرنسا متكئة بطبيعة الحال على ماضيها الاستعماري الإجرامي في الجزائر تبعتها موجة مضادة لا تقل استعداء وكراهية ضد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في فبراير من هذا العام.
ومن جانب آخر عادت إشكالية اللغة والثقافة الأمازيغية إلى سطح الصراع بعد إقرار يناير يوم عطلة وطنية مدفوعة الأجر وقرار إنشاء أكاديمية اللغة الأمازيغية وهو ما أثار ردود أفعال شديدة اللهجة من طرف قطاع من التيار العروبي والإسلامي تمحور حول طبيعة اللغة وحروف كتابتها والنزاع بين الأبعاد الجهوية والوطنية والدولية لمطلب تثبيت اللغة الأمازيغية ما رافق هذا النزاع من تنامي النزعة الانفصالية للماك التي صارت تتغذى من التيارات المضادة للبعد الأمازيغي.
وآخر مشهد طل علينا ما نراه اليوم من سجال عقائدي ومذهبي بين رائد الحركة السلفية المدخلية في الجزائر علي فركوس من جهة وبقية التنظيمات والهيئات الدينية من وزارة الشؤون الدينية والمجلس الإسلامي الأعلى وجمعية العلماء ومختلف التنظيمات الصوفية من جهة أخرى.
وما ينذر بالخطر الأكبر أن السلطة السياسية منكفئة على نفسها منشغلة بتجديد نفسها في أفق الاستحقاقات المقبلة دون أن تأبه إلى ضرورة فتح المجال للنخب المستنيرة للدفع بالرأي إلى ساحة الاعتدال، في الوقت الذي تتهدد المعبد رياح عاتية قد تأتي من أي جهة وتعصف به دون سابق إنذار.
أحسن خلاص