الأحد , ديسمبر 22 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / الثقافة / مساهمة:
المثقف .. مقاربات أولية

مساهمة:
المثقف .. مقاربات أولية

الدكتور محمودي رابح

مازال المثقف يثير عددا من الأسئلة و الإشكالات في شأن معناه ووظيفته في المجتمع، خاصة في هذه المرحلة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، والتحولات الجارية على أرضها بوتائر و سيرورات مختلفة، و بمآلات وصيرورات متباينة .. و برغم أن صورة هذه التحولات لم تكتمل بعد، يبقى دور المثقف مركزيا، و في الوقت ذاته ملتبسا و غير واضح، لا لكون موضوعه لم يطرق من قبل، بل لأنه عرف تخمة في الكتابة وبمقاربات متباينة زادت المفهوم غموضا والتباسا.

ومن المفيد أن نبدأ مقاربتنا هذه بقراءة اللحظة التاريخية التي أجمع عليها مؤرخو الأفكار الاجتماعية على أنها لحظة ميلاد المثقف، و هي اللحظةالدريفوسية، و تعود حيثيات القصة إلى سنة 1894 حيث أصدرت المحكمة العسكرية الفرنسية في قضية ألفريد دريفوس الضابط العسكري الفرنسي ذي الأصول اليهودية حكمها بتجريده من رتبته العسكرية ونفيه مدى الحياة إلى جزيرة الشيطان في كويانا، وهي مقاطعة فرنسية في أمريكا اللاتينية، كان ينفى إليها عتاة المجرمين، و هي التي فر منها بابيون papilloon – في الفيلم الشهير، أما التهمة التي بمقتضاها أصدرت المحكمة حكمها فهي تهمة التجسس لصالح ألمانيا العدو اللدود لفرنسا في تلك الحقبة، حيث اكتشفت إحدى الخادمات المشتغلات لصالح المخابرات الفرنسية، و هي تنظف غرف السفارة الألمانية في باريس، رسالة ضمن محتويات سلة المهملات تتضمن معلومات خطيرة عن جيش المدفعية الفرنسي، الذي كان ألفريد دريفوس قد عين في الهيئة المسؤولة عنه داخل هيئة الأركان العامة، وما إن فتح التحقيق في القضية حتى حامت الشكوك حول هذا الضابط لأسباب منها أصله الألزاسي اليهودي من جهة و شبه خط الرسالة بخطه من جهة ثانية .

لكن محاكمة هذا الضابط أخذت أبعادا سياسية واجتماعية على صفحات الجرائد، وانقسم الراي العام الفرنسي إزاءها إلى فريقين، فريق يؤيد الحكم الصادر في حق دريفوس، و فريق آخر يطالب بإعادة النظر في محاكمته، خاصة بعدما أفشى الكولونيل في المخابرات الفرنسية جورج بيكوارت باسم الجاسوس الحقيقي، وفي خضم هذا التجاذب الإعلامي والسياسي نشر الروائي أيميل زولا رسالته المشهورةأني اتهم  j accuse ” في جريدة لورور بتاريخ 23 جانفي 1898م  إلى الرئيس الفرنسي فليكس فور , و على إثرها ظهرت حركة واسعة تطالب باعادة النظر في قضية دريفوس باسم الانتصار لحقوق الإنسان و حقوق المواطن و القيم الكونية ..

و بعد نشر رسالة زولا قام مؤيدو دريفوس من أساتذة وأدباء وصحافيين ومحامين و أطباء ومهندسين وفنانينبنشر عريضة موقعين إياها باسمبيان المثقفينتطالب بإعادة محاكمة الضابط دريفوس، وهكذا كان ميلاد المثقف في سماء الفكر و الثقافة،  وهذا ما يدفعنا إلى الوقوف عند رسالة ايميل زولا لمقاربة مفهوم المثقف ودوره الريادي كما تجلى في هذه الرسالة التاريخية.

يقول زولا: “من واجبي أن أتكلم، لا أريد أن أكون شريكا في الجريمة، فإن لم أفعل فإن شبح ذاك الرجل البريء، الذي يدفع هناك ثمن جريمة لم يرتكبها ويسام أشد ألوان العذاب سيلاحقني في نومي ..  وشأن كل امرئ شريف، سأصرح بما أوتيت من قوة وغضب بهذه الحقيقة أمامكم يا سيادة الرئيس” .

هذا مقطع من رسالة غير عادية توجه بها زولا إلى الرئيس الفرنسي يومئذ، وهي تعتبر فارقة ثقافية في عالم السياسة أو لنقل في التدخل في الشأن العام، لأن القضية المثارة موضوعها مظلمة في هيئة أركان الجيش الفرنسي والقضاء العسكري وهما أشد المؤسسات انغلاقا بسبب ما يحيط بهما عادة من السرية، و ما قام به زولا يعد أول مؤشر في تحديد مفهوم المثقف، وهو تدخله فيما لا يعنيه بتعبير سارتر، وهذا ما يجعل  المثقف مهموما بالشأن العام وقضاياه العادلة.

و أما قوله: “من واجبي أن أتكلمفهو المؤشر الثاني الذي يجعل من الفكر مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى ، لأن زولا لم يتكلم رغبة في الكلام وإنما دفعه شعوره بالواجب إلى كتابة هذه الرسالة، رغم علمه بما يترتب عنها من أذى، وهو لا يأبه لذلك بقدر ما يريد تحقيقه من قيم إنسانية، حيث يفصح عن الغاية التي دفعته إلى كتابة هذه الرسالة بقوله: “ما ندبت نفسي للقيام به ما هو إلا أداة ثورية لاستحثاث الحقيقة والعدالة على التحققوهنا يكمن لمؤشر الثالث، أنه الدفاع عن القيم التي يؤمن بها حتى لا تتحول حياة المجتمع إلى شقاء وحرمان للحقوق الإنسانية ..

أماالشيءاللافتفيالرسالةهوتكرارعبارةإني أتهمللدلالة على الإصرار على تحقيق قيم الحق والحرية والعدالة .. مهما كلف ذلك المثقف وهذا مؤشر رابع يدفع المثقف إلى الوقوف في وجه الجميع مادام أنه مؤمن بعدالة القضايا التي يدافع عنها.

لاشك أن مثل هذه المواقف جعلت زولا واعيا بما ينتظره من عواقب حيث يقول  في نفس الرسالة: “لا أنكر أني أضع نفسي تحت طائلة البندين 30 و 31 من قانون الصحافة لسنة 29 يوليو 1881 الذي يعاقب على جرائم الثلب .”و هذا ما حدث فعلا و صدقت نبوءته حيث صدر ضده بسبب هذه القضية حكم بالسجن عاما مما اضطره إلى اللجوء إلى انكلترا متخفيا باسم مستعار، وهذا مؤشر خامس يدفع المثقف إلى تحمل تبعات مواقفه التي يؤمن بها.

إن الحكم الذي يصدره المثقف على أي قضية من قضايا المجتمع لا يستمد شرعيته من كون تلك القضايا تدخل بالضرورة في نطاق مؤهلاته أو صلاحياته، بل يستمد شرعيته من ذاته، من قيمته لدى المجتمع، وهذا ما يجعله ملاذ المجتمع الذي يلوذ أفراده به، وهكذا يصبح المثقف يقول بلسان زولا: “و لأنهم تجرأوا فإنني سأتجرأ أنا، الحقيقة سأقولها لأنني وعدت بقولها، إذا تخلى القضاء عن قولها كاملة غير منقوصة على الرغم بمعرفته بها، وهذا مؤشر سادس في تحديد وظيفة المثقف وهي تنوير الرأي العام  بالحقائق التي توصل إليها، و هو يدرك أنه لا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالتعبير عنها في المجال العمومي ومن خلال ما تتيحه وسائله ..

إن رسالة إيميل زولا لا يمكن اعتبارها شهادة ميلاد المثقف بقدرما هي أطروحة فكرية حددت ماهية المثقف ووظيفته الاجتماعية أو بعبارة  أدق يمكننا القول إنها منحته وعيا بموقعه الخاص في فضاء المجتمع المعاصر، بما يتضمنه ذلك الموقع من رسالة تستوجب عليه القيام بها خدمة للمجتمع و ازدهاره الإنساني في عالم الفكر والثقافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Watch Dragon ball super