شهدت البلاد منذ بداية الحراك في فيفري الماضي فتح العديد من قضايا الفساد التي تورط فيها العديد من المسؤوليين، صغارا وكبارا، من رؤساء بلديات إلى مدراء مؤسسات، إلى وزراء سابقين إلى رؤساء حكومة سابقين، غير أن نسق التحقيقات الذي يصفه البعض بـ “البطيء”، والعدد الهائل من الملفات التي توجد على عاتق العدالة، قد أجل فتح ملفات أخرى، و قد تسبب هذا التأجيل على ما يبدو في الدفع ببعض المواطنين “الغاضبين” إلى محاولة محاسبة المسؤولين بأنفسهم دون انتظار القضاء، ما خلق ظاهرة غريبة عن المجتمع متمثلة في التهجم على المسؤولين داخل مكاتبهم وطردهم منها وأحيانا الاعتداء عليهم جسديا، وبدأت في الاتساع أكثر فأكثر، ما يهدد بنشر الفوضى في المجتمع وتغليب “قانون الغاب”.
منذ انطلاق الحراك الشعبي في22 فيفري الماضي، كانت مطالب المتظاهرين تكمن أساسا في تحقيق الديمقراطية الحقة ومكافحة الفساد، وكسب المزيد من الحقوق والحريات، وكانت ركائز الحراك الأساسية التي دعا إليها منذ انطلاقه “السلمية ومعاقبة الفاسدين عن طريق تطبيق القانون”، ومع مرور الأسابيع والأشهر واستمرار الحراك وتمسك المتظاهرين بمطلب محاربة الفساد وسجن كل مسؤول متورط، سواء كان بأصغر هيئة بالمؤسسات عمومية، من مجالس شعبية محلية أو مراكز استشفائية جوارية، إلى أكبرها، وبسبب ربما تأخر محاسبة الجميع في هذا الظرف نظرا لتعقد القضايا وتورط الكثير من المسؤوليين إن لم نقل أغلبهم في قضايا الفساد، ما يتطلب وقتا أطول للوصول إلى هؤلاء إضافة إلى نقطة أخرى وهي الوقت الذي تستغرقه التحقيقات، قد جعل المواطن يعتقد -وقد يكون هذا الاعتقاد ناتجا عن عدم فهمه وإدراكه الجيد لمعنى الديمقراطية والحقوق والحريات- إلى محاولته لعب دور الدركي أو الشرطي أو القاضي، وبدأ بعض المواطنين بمحاسبة المسؤولين باتباع سلوكات غريبة عن المجتمع، كالاعتداءات العديدة على رؤساء بلديات أو مدراء مراكز صحية جوارية، أين يقوم المواطنون بالتهجم على المسؤولين داخل مقرات عملهم وأثناء أدائهم مهامهم، وطردهم من مكاتبهم أمام جميع الموظفين وتحت الهتافات الشامتة بهم، وقد انتشرت هذه الظاهرة تزامنا مع استمرار الحراك، ووصلت في بعض الأحيان إلى الاعتداء الجسدي على هؤلاء المسؤولين، ولا يأبه أصحاب هذه السلوكات بالقانون وقد يكون هذا عن جهل أو لظنهم أنه من حقهم فعل ذلك بما أنهم عانوا الأمرين طيلة عقود وطيلة تواجد هؤلاء المسؤولين على رأس هيئات ومؤسسات كان من المفترض أن ترعى مصالحهم، وقد جاء دورهم لتصفية الحاسبات معهم، غير أن تصفية الحسابات هذه والتعدي على القانون وتقمص دور رجل الأمن أو رجل القانون يجعل الوضع أكثر تعقيدا ويدفع نحو الفوضى في المجتمع، وقد يتساءل الكثيرون عن الأسباب الحقيقية التي تدفع ببعض المواطنين إلى الاعتقاد بهذا السلوك والقيام به وكأنه واجب يمليه عليهم الظرف لمحاسبة من يظنون أنه مسؤول فاسد، هل بسبب أن هذا المواطن غير مدرك للمعنى الحقيقي للحريات والحقوق، وأين تبدأ حقوقه وتنتهي، وما هو واجبه وأين ينتهي، أم هو ناجم عن عدم وعي بمدى خطورة التعدي على القانون مجتمعيا وعلى الصعيد الشخصي لما يترتب عنه من متابعات قضائية.
محمد طيبي مختص في علم الاجتماع: “تفتت مفهوم السلطة التي تحكم العلاقات الاجتماعية دفع بالمواطن للبحث عن حقه بطرق غير طبيعية”
وفي هذا السياق يقول محمد طيبي، المختص في علم الاجتماع السياسي، في تصريح لـ “الجزائر”، إن لهذه الظاهرة عدة أسباب، أولا تفتت مفهوم السلطة، والمقصود بالسلطة هنا هو العلاقات التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية، فبعد أن تفتت في ذهنيات الناس أصبح المواطن لا يثق في إمكانية الحصول على الحق بطريقة طبيعية، فلجأ إلى العنف بحكم أنه لم يعد يعترف بالدولة ولا بسلطة القانون، ويرى المختص الاجتماعي أن الفساد الذي تفشى في المرافق العمومية وتكبر وتجبر المسؤولين على المواطن، كانت وراء هذه التوترات التي يعيشها المجتمع اليوم، والتي دفعت بالمواطن إلى الاعتقاد بأنه لا بد أن يلجأ إلى هذا الأسلوب، وأكد طيبي أن الفساد التحتي الذي هو فساد التعامل مع المواطن باللفظ أو الطرد، والناجم عن التعفن في الخدمة العمومية، وغياب الاتصال بين الخدمة العمومية والمواطن، العامل الرئيسي المنتج لهذه السلوكيات. وقال طيبي إنه بالإضافة إلى ذلك ففي ظل الأزمة الحالية هناك مسؤولون يعملون عنوة على تعفين الوضع وإثارة غضب المواطنين، لأنهم مرتبطون بأطراف كانت تخدم لصالح جهات سياسية معينة غايتها خلق التوترات وإثارة الفوضى في المجتمع، غير أنه شدد على أن تفتت سلطة الضبط الاجتماعي تبقى أيضا عاملا مهما في ظهور هذه السلوكات، واستغرب المتحدث ذاته تفاقم هذه الظاهرة أكثر في الوقت الذي تشهد فيه البلاد محاربة الفساد والمفسدين وفي الوقت الذي تحررت فيه العدالة والقضاء وأصبحت تضرب بيد من حديد.
وفي رده عن سؤال حول سبب استفحال هذه الظاهرة خصوصا بعد الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فيفري الماضي ولا يزال مستمرا إلى اليوم، وإن كانت الظاهرة مرتبطة بالفهم الخطأ للحقوق والحريات والديمقراطية، قال طيبي، إن الصراع المجتمعي كان موجودا ولكن كان على مستوى محدد، وكان يظهر في مظاهر كغلق الطرق، أو الأسواق، وهي سلوكات اجتماعية تغذيها الانحرافات، ومحاولة الناس الحصول على حقوقهم بطرق أخرى غير القانونية، واليوم قد يكون لتفاقم الظاهرة ارتباط بالحراك، فالبعض قد يعتقد أن الحراك هو “تحرر من الالتزامات تجاه المجتمع والدولة”، وهذا الاعتقاد معناه تقليل من ضبط الدولة للمجتمع.
وأضاف طيبي أنه يجب أن نفهم أن المجتمع الجزائري رغم ما يبديه الحراك الشعبي من سلمية وتحضر وغيرها، إلا أنه -أي المجتمع- في حالة “تضعضع” في القيم التي تربط العلاقات الاجتماعية بين الناس، وقال إنه حتى الخطاب الديني لم يستطع التحكم في هذه المسائل، وأضاف: “لاحظت أن الناس الذين يتظاهرون بالتدين أصبحوا في سلوكاتهم مثلا في المظاهرات الشعبية لا يتسمون لا بالهدوء ولا بالحكمة، فخطاباتهم فيها صراخ وكلام لا يدعو إلى تهدئة النفوس”.
المحامي بوجمعة غشير: “هذه التصرفات ستؤدي إلى الفوضى.. ويجب التوعية بأهمية احترام القانون”
من جانبه، قال المحامي ورجل القانون بوجمعة غشير، أمس، في تصريح لـ “الجزائر”، بخصوص ظاهرة المحاسبة والاعتداءات التي يقوم بها المواطنون ضد مسؤولين “فاسدين”، بالتهجم عليهم في مكاتبهم وطردهم منها أو حتى الاعتداء الجسدي عليهم، وإن كان في مثل هذا الوضع يمكن القول إن المواطن أصبح لا يهاب القانون، “أن المشكلة مرتبطة بمدى الوعي بالقانون لأن المواطن الذي يعي معنى القانون، ويقدره لا يلجأ لمثل هذه السلوكات، خصوصا أن هناك طرقا قانونية قد يلجأ إليها الذي يشاهد تصرفا غير قانوني من قبل مسؤول، كالتبليغ للمسؤول الأعلى منه، أو للجهات المختصة، أما أن يقوم هو بنفسه بالتهجم على المسؤول وإخراجه وطرده من مكتبه بحجة أنه لا يؤدي مهامه بالشكل المطلوب أو لأنه فاسد، فهو تصرف همجي -يقول غشير الذي أضاف أن انتهاج مثل هذه السلوكات والتصرفات سيؤدي حتما إلى الفوضى العارمة بالمجتمع، وشدد المحامي ورجل القانون على ضرورة أن يتحلى كل مواطن بالوعي القانوني، ودعا وسائل الإعلام العمومية منها و الخاصة إلى ضرورة القيام بحملات تحسيسية بهدف التوعية بأهمية احترام القانون.
ويرى بوجمعة غشير أنه لا يحق للمواطن أن يخرق القانون حتى وإن كان هذا القانون ظالما، فيجب احترامه والعمل بالطرق المشروعة على محاولة تعديله أو إلغائه، أما أن يقوم بخرقه فهو “تمرد” ويجب الابتعاد عن هذا السلوك والتعامل بالطرق القانونية مع كل مسؤول رأى نفسه فوق الجميع أو ارتكب ما يجب محاسبته عليه.
وفي رده على سؤال إن كانت هذه الظاهرة تفاقمت أكثر بعد الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فيفري ولا يزال مستمرا إلى اليوم، ومدى علاقتها بالفهم الخاطئ لبعض المواطنين لمعنى الحريات والحقوق والديمقراطية، قال رجل القانون، إن هذه الظاهرة تفاقمت أكثر بعد الحراك، لدرجة أن حتى بعض النشطاء في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان يسعون إلى تصحيح بعض الممارسات بأنفسهم وكأنهم تقلدوا دور “الشِريف” في الشرطة الأمريكية، وهذا خطا كبير، وما عليهم إلا إبلاغ الجهات المخولة بذلك، ومن يسلك هذا السلوك فمفهومه للمواطنة والحرية خاطئ، وأوضح قائلا:”الديمقراطية ليس معناها أن تقوم الفوضى في المجتمع، وعلى الجميع أن يعتقد اعتقادا مطلقا أن من يحكم المجتمع هو الميزان –أي العدل، ولو ترك لكل شخص المجال لتطبيق العدالة كما يراها هو لتفكك المجتمع”.
لخضر بن خلاف: “هذه الظاهرة نتيجة لحكم العصابة .. وهي مرفوضة وسلطة الدولة والقانون يجب أن يبقيان”
أما القيادي بجهة العدالة والتنمية والنائب البرلماني لخضر بن خلاف، فاعتبر في تصريح لـ “الجزائر”، أمس، أن بروز ظاهرة العنف ضد مسؤولين، كان نتيجة حتمية لتسيير العصابة لدواليب السلطة، والتي جعلت المواطن يشعر بعدم تطبيق القانون، أو أن القانون قد اختطف، وكأننا أصبحنا نعيش بقانون الغاب الذي طبقته العصابة وأذنابها -يقول النائب- الذي أضاف أنه يرى أن مثل هذه التصرفات هي التي دفعت المواطن إلى هذا السلوك خاصة بعد الحراك، غير أن بن خلاف قال، إنه بغض النظر عن كل المبررات التي يتخذها أصحاب هذا السلوك من اعتداء على المسؤولين المحليين أو الأطباء والطواقم الطبيبة بالمستشفيات ليلا، فهذا التصرف غريب عن المجتمع ومرفوض ولا يبرر ما قامت به العصابة أو أذنابها ولا يعطي الحق لأي مواطن لانتهاج طريق آخر دون الطرق القانونية في محاسبة المسولين، لأن الدولة -يقول بن خلاف- يجب أن تبقى الدولة والقانون يجب أن يبقى أيضا.
وقال القيادي بجهة العدالة والتنمية إن الحراك الشعبي هو ثورة شعبية اندلعت من أجل تحقيق دولة القانون، والمواطن مجبر على تطبيق القانون، لأن السائد في المجتمع هو تطبيق القانون وليس قانون الغاب الذي مورس سابقا ولا نريد العودة إليه، وأكد على عدم الالتزام بالقانون والسعي لتطبيق كل مواطن للعدل بما يراه هو أمر مرفوض أخلاقيا وتصرف غريب عن المجتمع.
رزيقة.خ