تحاول الحكومة الفرنسية، اللعب على الوترين فيما تعلق بالأزمة السياسية في الجزائر، وتر التنويه بخطة السلطة الداعية إلى مرحلة انتقالية بقيادتها وحدها، ووتر “التغزل” بالمسيرات السلمية التي يقوم بها مئات الآلاف من الجزائريين كل يوم جمعة، من الرافضين لهذه الخطة ولتمديد عمر السلطة الحاكمة.
خرج وزير الخارجية الفرنسية، جون إيف لودريان، للتعبير عن إعجاب فرنسا بالحراك الشعبي السلمي في الجزائر، المشتعل منذ جمعة 22 فيفري الفارط، والمنادي بإبعاد الرئيس بوتفليقة وطاقمه الحاكم منذ 20 سنة وهو الحراك الذي أذهل العالم بسلميته وحضاريته ومدنيته حتى صار “مثالا” يحتذى به بشهادة الصحف العالمية.
نوه وزير الخارجية والتعاون الدولي الفرنسي، جون إيف لودريان، عند نزوله ضيفا على قناة “بي أف أم تي في” بالاحتجاجات السلمية، قائلا: “نحن نراقب باهتمام ما يحدث بالجزائر، قوة هذه الحركة الديمقراطية وخصوصيتها”، مضيفا أنها أقل عنفا من حركة السترات الصفراء في فرنسا.
وأضاف وزير الخارجية الفرنسي، قائلا: “أعتقد أن الجزائريين يظهرون كرامة كبيرة”، وشدد بأن فرنسا “ستكون إلى جانب الجزائر التي تقرر مستقبلها وليست فرنسا”، وردا على سؤال حول من يسير الجزائر حالياً، أجاب لودريان دون تردد إنه “الرئيس عبد العزيز بوتفليقة”، وفي جواب على سؤال يستفسر عن دور محتمل لنائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، قال لودريان بأن “الرئيس بوتفليقة هو الذي لا يزال يسير البلاد”.
وفي السياق ذاته، اعتبر جون إيف لودريان أن باريس “لن تتدخل في السياسة الداخلية للجزائر”، مفيدا في نفس الوقت بأن الجزائر “تمر بلحظة مهمة، هناك حراك كبير للسكان، حراك عميق يطمح إلى حوار ديمقراطي”.
وتعيش باريس على الأعصاب بسبب عدم قدرتها منذ البداية على تفكيك ما يحدث في الجزائر، من مظاهرات لا تشبه تلك التي تقام عندها منذ نوفمبر الماضي، فيما يعرف بتظاهرات “السترات الصفراء” التي شابتها الكثير من مظاهر العنف، حيث من الواضح أن الإدارة الفرنسية لم تكن تنتظر هذه التحركات الشعبية الواسعة والمنظمة ضد النظام الجزائري، وهي التي ترتبط معه بمصالح حيوية اقتصادية بالأساس، دفعها هذا الحراك للتخوف على مستقبل مصالحها، فكان أول ما فعلته، استدعاء سفيرها من الجزائر العاصمة، في بداية الأحداث ليقدم لماكرون في المجلس الحكومي المعلومات المناسبة حول الحراك الشعبي الذي فاجأ أكثر من جهة في الداخل والخارج.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول مسؤول غربي رفيع المستوى عبّر عن دعمه المطلق لخطة الرئيس بوتفليقة بخصوص “المرحلة الانتقالية” التي تنتهي بندوة وطنية شاملة، حيث نوه بهذا التوجه في خطاب من جيبوتي، بعد ساعات من إعلان بوتفليقة على ذلك في رسالة موجهة للجزائريين، ما دفع رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية “الأرسيدي” محسن بلعباس للتشكيك في موقف إيمانويل ماكرون، مشيرا إلى فرضية علمه المسبق بخطة السلطة قبل الجميع، ولذلك كان أول رئيس دولة عبر عن دعم السلطات الجزائرية قبل الاطلاع على ورقة انتقال الحكم وفق بلعباس، وهي ورقة الطريق التي حاولت موسكو الاطلاع عليها بدعوة نائب الوزير الأول وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، لزيارة لموسكو ومن ثم أكدت على دعم خطط الرئيس بوتفليقة الذي بعدما تخلى عن مشروع العهدة الخامسة يحاول تمديد عهدته الرابعة التي تنتهي بعد شهر، بحجة تنظيم “الندوة الوطنية” المرفوضة من طرف المعارضة وكذلك من المتظاهرين.
لم يجلب الموقف الفرنسي إلا الصداع لماكرون، حيث عبر الجزائريون في مسيرات جمعة 15 مارس، عن تنديدهم بهذه التصريحات التي فهمت من الجزائريين بأنها “تدخل فرنسي سافر” في الشأن الوطني، كما وجهت سهام النقد الشديد في لافتات واضحة رفعها المتظاهرون موجهة للرئيس ماكرون.. وفي الأيام التي تلت تلك المظاهرات أعاد ماكرون ترتيب حروف خطابه، ففي لقاء جمعه مع ثلة من المثقفين الفرنسيين وفي نقاش مع المؤرخ الفرنسي المختص في تاريخ الثورة الجزائرية بنجامان ستورا، اعترف ماكرون أن أي تعليق حول الوضع في الجزائر “يعتبر بمثابة تدخل”، معتبرا أن هناك صعوبة كبرى في الحديث عن الشأن الجزائري، ليفهم بأن الرئيس الفرنسي في مرحلة جديدة من التعامل مع الحراك الشعبي الجزائري بعد الضجة التي أثارها عند تعليقه الأول، والذي فهم منه وقوفه ضد مطالب الجزائريين ليتراجع خطوات إلى الوراء ولو ظاهريا لتبقى الاتفاقيات المبرمة تحت الطاولة هي الأساس فلربما يأتي اليوم الذي يكتشف فيه الرأي العام سبب التدخل الفرنسي في شأن من المفترض أنه يهم شعبا آخر حر وسيد افتك استقلاله منذ أكثر من نصف قرن.
وقد أعلن الجزائريون أمام العالم منذ اليوم الأول لحراكهم السلمي أن أزمتهم السياسية “شأن عائلي” ولا يحق لأي دولة مهما كانت غربية أو عربية التدخل في أمورهم.. وهي الورقة التي استغلتها السلطة إيجابيا، لتغلق الباب أمام أي يد خارجية تبحث عن حشر أنفها في الأزمة الجزائرية، مثلما ردد بذلك نائب الوزير الأول وزير الشؤون الخارجية رمطان لعمامرة أمام نظيره الروسي سيرغي لافروف، قائلا بأن ما يحدث في الجزائر “قضية عائلية”، وكحليف استراتيجي بالنسبة للجزائر، رد لافروف بكل ثقة في النفس أن روسيا تقف ضد أي زعزعة لاستقرار الجزائر.. الرسالة يبدو أنها وصلت لمن يهمهم الأمر.
إسلام كعبش