في مثل هذا اليوم من كل عام تعرف منطقة إيفري أوزلاغن بإغزر أمقران توافد المئات من الجزائريين للوقوف مع ذكرى انعقاد اجتماع الصومام لمجموعة من قادة الثورة التحريرية. وإن كانت الاحتفالات التي تقام في هذه البقعة وبهذه المناسبة تتجه إلى حصر الحدث في امتدادات سياسية وأخرى حزبية إلا أن القوة التاريخية للحظة ذاتها تتجاوز التحويل السياسي مهما كانت “النوايا الانتهازية” لأصحابه.
واللحظة التاريخية هي أصل كل شيء وهي التي تبقى عندما ينتهي كل شيء لكونها مفصلية من منطلق القطيعة التي أحدثتها مع ما قبلها ومن حيث أن تأثيرها الفكري والسياسي والتنظيمي لا يزال قائما إلا يومنا هذا فلا يكاد يخلو نقاش حول الراهن السياسي منذ أكثر من ستة عقود إلا واتخذ من الصومام مصباحا يستضيء به لأي محاولة فهم عميق لمنطلقات ومآلات الأحداث والتصورات ومقياسا تقاس به درجة الاستواء والانحراف في المسيرة الفتية للجزائر المستقلة.
لم يعد اجتماع الصومام إذن مجرد وقائع تروى بل تجاوز ذلك إلى التفكير العميق في التأثير الذي أحدثه الاجتماع الذي وقع بين 20 أوت و 02 سبتمبر 1956 بإيفري وضم أربعا من قادة المناطق العسكرية للثورة وهم كريم بلقاسم عن المنطقة الثالثة ومحمد العربي بن مهيدي عن المنطقة الخامسة وزيغود يوسف عن المنطقة الثانية وأعمر أوعمران عن المنطقة الرابعة، مضافا إليهما، وفق ما جاء به محضر الاجتماع، كلا من رمضان عبان ممثلا عن جبهة التحرير الوطني ولخصر (عبد الله) بن طوبال مساعدا لزيغود يوسف. وأشار المحضر ذاته إلى غياب قائد المنطقة الأولى مصطفى بن بولعيد وهو ما يدل على أن المجتمعين لم يعلموا باستشهاده في 22 مارس من السنة ذاتها وقائد المنطقة السادسة علي ملاح الذي أرسل تقريرا عن منطقته.
الملاحظة الأولى أن محضر الاجتماع لم يشر إلى غياب قادة الوفد الخارجي وهم احمد بن بله ومحمد خيضر المتواجدين آنذاك بالقاهرة وحسين ايت احمد المتواجد بنيو يورك. مما يعني أن الاجتماع الذي كان مقررا لتقييم العمل العسكري الذي انطلق في أول نوفمبر 1954 وتنظيمه توسع برنامجه إلى إثراء المحتوى السياسي للثورة بل ذهب إلى إصدار وثيقة تتجاوز الصفوف الداخلية والخارجية للثورة لتوجه رسائل إلى المجموعة الدولية وأخرى إلى جيلنا.
بين الجبهة والجيش
الملاحظة الثانية التي لا تقل أهمية عن الأولى هي صعوبة التمييز بين جبهة وجيش التحرير الوطني اللذين تأسسا في اللحظة ذاتها قبل اندلاع الثورة بأيام فقط لأن الثورة في البداية لم تكن تميز بين السياسي والعسكري بل ضمت مناضلين بإمكانهم أن يرتدوا ثياب المناضل السياسي صباحا ويخوضوا المعارك مع الجيش الاستعماري مساء فلماذا حضر رمضان عبان أشغال المؤتمر بصفته ممثلا عن جبهة التحرير الوطني بينما قدم المحضر الحاضرين الآخرين بصفتهم ممثلين لمختلف المناطق العسكرية؟ ولماذا منحت رئاسة الاجتماع لرجل اسمه محمد العربي بن مهيدي الذي كان قادرا بسهولة على أن يجمع بين الصفتين العسكرية والسياسية؟
هذه الهندسة القيادية التي قادت الاجتماع كانت تعبر عن وفاق بين القادة على أنه لا يوجد بين المؤتمرين عسكر وسياسيون بل هناك مناضلون مسلحون وغير مسلحين جاءوا لتقييم ما يقارب سنتين من العمل المسلح الذي عرف صعوبات في الميدان ناجمة عن ظهور الحركات المناوئة لجبهة وجيش التحرير الوطني منها الحركة المصالية والكوبيسية والشريفية وغيرها وهي الحركات التي استهدفت النضال السياسي لجبهة التحرير الوطني والعمل المسلح لجيش التحرير الوطني على حد سواء في المناطق العسكرية التي كان يتمركز فيها جيش التحرير كما شملت الحركة الاجتماعية والنقابية في المدن وفي فرنسا وهو الأمر الذي دفع قيادة جبهة التحرير الوطني لدفع عمال مناضلين من حركة انتصار الحريات الديمقراطية السابقين إلى إنشاء الاتحاد العام للعمال الجزائريين والاتحاد العام للتجار والحرفيين والاتحاد الوطني للطلبة المسلمين الجزائريين وغيرها من التنظيمات الاجتماعية والنقابية لتزيح من الميدان الحركات التي أنشأتها حركة مصالي.
تضاف إلى ما ذكرنا من حرب داخلية صعوبات أخرى أعاقت الحرب ضد النظام الاستعماري وهي صعوبات تنظيمية ومالية ولوجستيكية تضاف إلى خواء فكري إذ باستثناء نداء أول نوفمبر كانت الثورة تفتقر لأرضية سياسية قوية وثرية تحدد الأهداف العملية للثورة وأهدافها السياسية والإستراتيجية وسبل وشروط التفاوض مع الحكومة الفرنسية إلى جانب غياب وثيقة تتوجه إلى المجموعة الدولية التي كانت تنظر إلى ما يحدث بالجزائر بعين الريبة والحذر مستسلمة للدعاية الاستعمارية.
جاءت مخرجات الصومام لتجيب، إذن، عن كثير من التساؤلات التي اجتمعت في قلق عام كان سائدا في أوساط قيادة الثورة والمناضلين وجنود جيش التحرير الوطني وعامة الشعب على حد سواء حول طبيعة الثورة وأهدافها وتنظيمها وقدراتها السياسية والعسكرية وتمثيلها وشمولها أغلب الطاقات الموجودة في المجتمع إضافة إلى الرسائل التي أرسلتها إلى النظام الاستعماري العدو بالخصوص والرأي العام الداخلي والخارجي عموما زيادة إلى الرسائل العابرة للزمن والتي وصلت إلينا اليوم وتنتظر ردنا.
رسائل الصومام إلينا
في كل مرة يحيي الجزائريون ذكرى مؤتمر الصومام ولاسيما منهم القوى الوطنية والديمقراطية تطفو إلى السطح هذه التساؤلات الجوهرية: هل انتهت صلاحية وثيقة الصومام؟ هل آن الأوان لأن نتركها بين أيدي المؤرخين ونبعدها عن السياسية تماما مثلما يبعد الدين؟ وبالمقابل، هل لا تزال وثيقة الصومام قادرة على الإجابة عن القضايا العالقة التي لم تضع لها الأجيال المتعاقبة منذ 62 عام إجابات دقيقة وواضحة ونهائية؟ وماذا طبق من وثيقة الصومام وما الذي تم التراجع عنه أو الانقلاب عليه؟ ولماذا قامت المؤتمرات اللاحقة مثل مؤتمر القاهرة في 1957 ومؤتمر طرابلس عام 1962 بمراجعة الكثير من بنود مؤتمر الصومام؟
تلك أسئلة وأخرى، أخواتها، لا يمكن الإحاطة بها بسهولة دون استحضار الفاعلين والشهود على مختلف المراحل التي أعقبت صدور أول وثيقة شاملة للثورة في إيفري. ومع ذلك يمكن المغامرة ومحاولة الاقتراب منها بأكبر قدر من الموضوعية بتناول جملة من القضايا التي لا يزال الجزائريون يناقشونها اليوم وقد يواصلون الخوض فيها غدا.
الوحدة الوطنية
ظلت الوحدة الوطنية هاجسا جزائريا منذ السنوات الأولى للاستقلال الذي تعرض لامتحانات عدة مثله مثل الثورة التحريرية قبله كما ظلت هدفا أمام الجزائريين بدل أن تكون إنجازا متينا ونهائيا يكون منطلقا. وإلى يومنا هذا لا تزال مسألة الوحدة الوطنية تطرح على أكثر من صعيد، سواء بمبرر تهديدات حقيقية أو مفتعلة بخطر داخلي أو خارجي أو تحديات سياسية أو اقتصادية مستقبلية أو لمجرد الحفاظ والوفاء لرسالة الثورة التحريرية التي كانت مثالا لتوحيد الجزائريين حول كلمة واحدة. وتتجلى فكرة الوحدة الوطنية في عدة مسميات منها التوافق الوطني والمصالحة الوطنية والإجماع والعقد الوطني وغيرها من المفاهيم التي تؤدي عن قرب أو بعد معنى وهدف الوحدة الوطنية. فماذا أنجز اجتماع الصومام في هذا المجال؟
وكما ذكرنا في فقرة سابقة فإن الثورة التحريرية، بقدر ما رفعت شعار الوحدة الوطنية لم تسلم منذ اندلاعها من التهديدات التي حامت لسنوات بانسجام الشعب الجزائري وقوى الحركة الوطنية الاستقلالية بسبب ظهور الحركات المناوئة لجبهة وجيش التحرير الوطني في وقت تشتت صفوف القوى السياسية والاجتماعية الأخرى من علماء وبيانيين وشيوعيين. وكانت القيادة التي انتظمت في إيفري مجمعة على أنه لا نجاح للثورة إلا إذا تمكنت من استقطاب أكبر عدد من القوى الوطنية بما فيها المتحفظة سابقا من مبدأ الراديكالية السياسية، لسان حالهم هو ما كان يردده رمضان عبان بأنه لن يترك شيئا لفرنسا، ولن تجد مساحات تلعب فيها إذا انضم الجميع حول هدف واحد وهو الاستقلال الوطني. فكانت المؤسسات القيادية المنبثقة عن الصومام فضاء رحبا التقت فيه مختلف الأطياف إضافة إلى تنظيم الثورة في كامل التراب الوطني وتحديد الخطوط الحمراء للتفاوض مع العدو الاستعماري وعلى رأسها عدم التفريط في الصحراء ولو كلف الثورة سنوات عديدة أخرى من التضحيات. لقد نجح الصومام في هذا الامتحان العسير ووحد الصفوف ووضع المؤسسات وتجاوز إلى حد كبير تلك الحرب الداخلية التي قامت في الشهور الأولى للثورة بفضل عبقرية قادة الثورة التحريرية الذين أحيوها بعدما كادت أن تموت في المهد بفعل عوامل الانقسام المذكورة. وما أحوجنا اليوم إلى روح الصومام ونحن نسمع هنا وهناك حديثا عن التوافق والمصالحة والإجماع وغيرها من المصطلحات، فهل جيلنا اليوم وهو في ظروف السلم، من العبقرية اللازمة للوصول إلى هذا الإنجاز الذي تم في ظروف الحرب؟
السياسي والعسكري
لا تختلف إشكالية مكانة المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي عن هاجس الوحدة الوطنية فقد ظل التمدين السياسي مشروعا يتقدم حينا ويتأخر أحيانا إذ بالرغم من التطورات التي حدثت منذ الاستقلال في مجال العلاقة بين السياسي والعسكري في الجزائر ونص الدساتير المتأخرة بوضوح على دور الجيش إلا أن القضية لا تزال تطرح بإلحاح في الأوساط السياسية لاسيما المعارضة وقطاع من المثقفين.
ولم يكن طرح اجتماع الصومام فكرة السياسي والعسكري من باب التخندق والتموقع ودرجة النفوذ والتأثير في قرارات الثورة من هؤلاء على أولئك من المدنيين والعسكريين بل طرحت كمسألة إجرائية منهجية من منطلق إعادة صياغة أهداف الثورة التحريرية صياغة واضحة يفهمها العالم المحيط بالجزائر الثائرة آنذاك، بتعبير آخر لم يكن ينص مؤتمر الصومام على أولوية السياسيين على العسكريين في اتخاذ القرار لأنه أصلا لا يوجد عسكريون مقابل سياسيين في قاموس الحركة الوطنية وثورة التحرير إنما كان الجميع تحت مظلة المناضلين أو المجاهدين.
لكن المؤتمر ارتأى أن الثورة لابد أن تكون لها أهداف سياسية بالدرجة الأولى ولن تكون الوسيلة العسكرية إلا إحدى الأدوات الضاربة مثلها مثل العمل الديبلوماسي والعمل النقابي والاجتماعي. غير أن مؤتمر القاهرة قد ألغى هذا المبدأ بحجة أن لا أحد يعلو على الآخر غير أنه أسس لتفوق العسكري على السياسي في القرارات التي تصدر عن الحكومة المؤقتة لاسيما عن طريق سلطة الباءات الثلاث على لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية وعلى الحكومة المؤقتة بعد ذلك، وهو المبدأ الذي ذهب ضحيته الباءات الثلاث أنفسهم عندما تفوق عليهم قائد أركان الجيش العقيد هواري بومدين وأزاحهم من المشهد بعد الاستقلال من منطلق ضرورة تفوق العسكري على السياسي الذي تكرس في جزائر الاستقلال بعد أزمة عام 1962.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت فكرة التمدين من جديد عندما أطلق الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني فكرة الدولة المدنية غير أن الفكرة اختفت بمجرد إزاحته من الأمانة العامة للحزب والمشهد بشكل عام. كما طفت الفكرة على السطح بمناسبة عرض حركة مجتمع السلم لمبادرة التوافق الوطني حيث دعا الجيش إلى “لعب دور في انتقال سلس للسلطة” وهو ما رد عليه قائد أركان الجيش بالرفض مبررا ذلك بأن الدستور يحدد موقع الجيش خارج العملية السياسية ولا يتلقى الأوامر إلا من رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وإلى جانب ذلك ظل الفصل بين السياسي والعسكري مطلب الكثير من القوى السياسية حتى بعد انسحاب ضباط الجيش من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني عام 1989. فما الذي تحقق في هذا المبدأ وما الذي لم يتحقق؟
الهوية الوطنية
هذه أيضا من المسائل الشائكة المطروحة على مدى عقود من الزمن إذ أن مسألة الاعتراف الرسمي بمكونات الهوية الجزائرية بقيت عالقة ومحل تجاذبات إلى أن جاء الاعتراف الرسمي الأخير من خلال دستور 2016 لينهي الجدل القائم منذ الاستقلال بترسيم اللغة الأمازيغية وإضافتها إلى الإسلام واللغة العربية. وقد خاضت الجزائر مخاضات عسيرة كادت أن تدخل في حرب هوية قاتلة بحيث كان كل مكون لا يرى نفسه موجودا إلا بغياب الآخر.
وكانت مسألة الهوية محل جدال وصراع داخل الحركة الوطنية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وأحدثت شرخا في حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية. فماذا فعل الصومام بشأن هذه المسألة؟ لقد اختار المثل القائل بأن الصمت حكمة وأن الخوض في مثل هذه المسائل خلال الثورة التحريرية سيكون بمثابة ضربة قاصمة لها فهل هذا تعبير حنكة أم غياب للشجاعة المطلوبة للذهاب إلى توضيح جميع القضايا العالقة قبل الاستمرار معا؟
لقد فضل الصومام تأجيل الخوض في مسائل الهوية لكي لا يتفكك المكسب الثمين الكامن في توحيد صفوف الوطنيين في معركة واحدة وهي الاستقلال. وذهب مؤتمر الصومام إلى حد إلغاء عبارة “المبادئ الإسلامية” التي كانت واردة في بيان أول نوفمبر وهو ما فسره بعض قادرة الثورة غير المشاركين في المؤتمر كأحمد بن بله بأنه ردة على البيان وطمس للهوية العربية الإسلامية للثورة غير أن خطاب الصومام الذي كان موجها للداخل والخارج ارتأى تجريد الثورة من أي ثوب ديني وإيديولوجي بالتركيز على المبدأ الواحد والوحيد وهو الاستقلال الوطني. فأين نحن من روح الصومام وقد اندلعت صراعات حول الهوية كثر منها جدل بيزنطي لا طائل من ورائه ولا فائدة ترجى منه في جزائر الألفية الثالثة.
هذه المسائل إنما هي غيض من فيض ما أدلى به مؤتمر الصومام من رسائل لجيلنا وقد تعبر للأجيال القادمة فلا يظن الواحد منا أن وثيقة الصومام مكانها المتحف.
احسن خلاص