كلّنا نُجمِع أنّ العظمة لله وحده سبحانه -جلّ وعلا-،بحكم ما تُبصره أعيننا من مشاهد كونيّة خلقها الله تعالى، فأحسن في خلقه وأبدع فيه…والمتأمّل لهذا الخلق كلّه ببصره وبصيرته يدرك هذه العظمة الّتي تسبّح لها الملائكة والبشريّة أجمع، ويشهد لها الأنبياء والرّسل فللّه جلّ وعلا عظمته التي تليق بجلاله وربوبيّته وألوهيته وسلطانه،والسّؤال الذي يتبادر إلى ذهني:”هل يمكن أن يكون الإنسان عظيما؟”.
أقول..أجل…يمكن أن يكون الإنسان عظيما عظمته الّتي تليق بإنسانيته،يمكن أن يكون الإنسان عظيما في أفكاره…في قلبه..في أخلاقه..في آدابه ومعاملاته…يمكن ويمكن ويمكن أن يكون الكثير…هذه العبارة الّتي تحمل في طيّاتها ما يجعل الإنسان إنسانا عظيما..بالفعل…
فلو تحدّثنا مثلا عن الأفكار الّتي ابتكرها الإنسان من قرون وأزمنة طويلة مضت…أفكار صنعت تاريخا تشهد له البشريّة إلى اليوم..أفكار أنارت دروب السّالكين..وفتحت آفاقا جديدة نحو فكر جديد..أفكار صنعت لأصحابها مجدا تشهد له الأقلام الّتي تحويها أمّات الكتب..لو جئنا لأبسط مثال فقط…فكرة صنع المصباح الّتي جاءنا بها توماس أَديسون….فكرة في زمن ذلك الرّجل..أنظروا ماذا فعلت؟!..إلى ما تحوّلت!أليس هذا عظيما؟..ولا تزال هذه الأفكار في سيرورة التّقدّم والتّطوّر…وغيرها كثير من النّظريات والقوانين الّتي جاء بها أولئك العظماء والّتي لازالت إلى اليوم تُدرَّس وتُلقَّن ولازالت معلما مهمّا لبعض الدّراسات…إلى الآن…
ولو جئنا إلى الأخلاق والآداب والمعملات..إلى قلب الإنسان، هذه المضغة الصّغيرة الّتي تقع في مكان ما في أجسادنا..ولكن انتظروا!تأمّلوا ..هذا القلب وما يحويه…! ولننطلق من قول رسول الله *صلّى الله عليه وسلّم*في أواخر الحديث العاشر من الأربعين النوويّة:”…..ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كلُّه،وإذا فَسُدت فَسُد الجسد كلّه،ألا وهي القلبُ”… سبحان الله!.. مضغة صغيرة لكنّها أشبه بعالم كبير…عالم إذا ما حوى الخير والصّلاح والأمل والتّفاؤل والجمال والخُلق النّبيل…صنع ما يمكنه عظيما بالفعل…فالإنسان العظيم في نظري…هو من يملك كلّ الخصال التي تؤهّله لذلك..سواء في آدابه وأخلاقه…أو في أفكاره وأحلامه…أو بالأحرى في كلّ ميادين الحياة..ويستطيع الإنسان أن يكون كذا متى ما آمن بذلك،ومتى ما صنع طريقا له حافلا بالخير والإنجازات،طريقه الّتي اختاره هو..وقرّر كيف تكون…فلو تحدّثنا عن الآداب والمعاملات ،نجد الإنسان الذي جمع بين كلّ خصال الأدب مع الله ومع الخلق ومع نفسه اقتداء بالحبيب محمّد *عليه الصّلاة والسّلام*كان عظيما بحقّ،عظمته التي تليق بإنسانيّته،وكذلك بالنّسبة للأحلام والأفكار..فمتى ما حَلُم الإنسان وسعى لتحقيق أهداف سامية ترقى به وبكلّ من اقتفى أثره وصولا إلى القمّة،وزارعا في نفوس الآخرين آمالا عريضة وآخذا بأيديهم،قائلا لهم بأنّهم كذا يستطيعون أن يكونوا عظماء مثل أولئك الّذين أرادوا أن يكونوا فكانوا رغم كلّ التّحديات والصّعوبات.
كما يقول..أدولف هتلر:”من العظماء من يشعر المرء في حضرته أنّه صغير،ولكنّ العظيم بحقّ من يُشْعِر الجميع بحضرته أنّهم عظماء”….فمنهم من عاش شبابه في أوحال الظلمة والضّياع لكنّهم قاموا وتمسّكوا بأحلامهم حتّى تحقّقت وكانت واقعا يراه الجميع..
وهناك من فقدوا أسباب الحياة،فقدوا الأسباب ليعيشوا،فقدوا نعما امتلكناها نحن..من سمع وبصر..فقدوا أقدامهم..لكنّهم عاشوا كما حلموا أن يعيشوا..فقط لأنّ قلوبهم آمنت وتمسّكت بالحياة،ولم يفقدوا الأمل والرّؤية الصادقة،وصنعوا بعزيمتهم وكفاحهم وإصرارهم طريقا يعبرونه إلى القمّة إلى النّجاح إلى التميّز..وإلى العظمة…يقول كونفوشيوس:”ليست العظمة في أن لا تسقط أبدا بل تسقط ثمّ تنهض من جديد”.
فهذه <فريدا كاهلو>عرفت الحوادث المؤلمة،رُشِق في عظامها الكثير من المسامير وارتدت المِشدّاتِ من أجل إصلاح ظهرها،أُصيبت بشلل جسديّ،وآخرَ نفسيّ…ومع هذا فقد كانت امرأة ذات إرادة حديديّة،تقول في مذكّراتها:”ما أجمل أن ينظر المرء إلى الجانب المشرق من الأشياء ويستثمرها لتكون دافعا له ولغيره لبذل المزيد،فلابدّ من وجود ثقب للضّوء في الأماكن المظلمة”.
لقد ترجمت فريدا الألم الّذي عاشته إلى فنّ،تقول:”لم أرسم أبدا أحلاما،بل أرسم واقعي الحقيقيّ فقط”.
إنّ آلام جسدها هي منبع فنّها،فهي امرأة عظيمة فعلا..يقول الشّاعر “موسييه”:”لا شيء يجعلك عظيما غيْرَ ألم عظيم”.
وغيرها كثير من النّماذج من سِيَر العظماء عبر تاريخنا..أرادوا فآمنوا فجاهدوا وكافحوا حتّى وصلوا.
وعليه يمكن أن يكون الإنسان عظيما مادام يحلم بأهداف عظيمة، ويمكن أن يكون..إذا كان في قلبه إيمان كامل وثقة وصبر وإصرار إلى ما كان يحلم به ويريده. فالعظمة الحقيقية في نظري أن يؤمن الإنسان بما يحلم به فيسعى ويكافح ويَكِدَّ فلا شيء مستحيل أمام الإرادة والعزيمة والإصرار والكفاح من أجل أهداف سامية ونبيلة.
الأستاذة والكاتبة بلياسين نجاة