يعتبر الغلاف أول عتبة يقع عليها نظر القارىء، وأول لوحة فنية تجذبه، مما قد يثير شغفه لتصفح الكتاب .لأغلفة الكتب دلالات ومعان و إيحاءات، غالبا مايكون لها امتداد فى النص يحدث أن نرمز لبعض أفكاره، فالرسومات و الخطوط والألوان، والكتابات وتعد كلها لافتات استدلال تحيل المتلقى على النص، وتفتح شهيته لممارسة فعل القراءة بدافع الرغبة.
يبدو غلاف القصة المصورة (أسطورة السنجاب )، فى صحة جيدة، يكفى أنه دال وموحى من حيث التشكيل، ومتضمن لعمق فكرى وسياسى من حيث المعنى، يتضح ذلك فى صورة للسنجاب وسط تداخل لونى، أنتج مشهدا داكنا يوحى بالضبابية، التى توقظ حتما روح المغامرة والتصدى حبا فى البقاء.
إن الكاتبة تركية لوصيف، مولعة دوما بالبحث عن بصمتها، يلاحظ أنها تخلت فى نص أسطورة السنجاب عن عتبة الإهداء، وانزاحت مباشرة للدخول فى الفاتحة النصية، لا أدرى إن كان ذلك سهوا منها أم عمدا، ربما أقدمت على هذه الخطوة، رغبة منها فى كسر طابو الرتابة، بعد أن رأت أن التمرد على المألوف، هو مايحقق لها التميز، وهو مايضفى على كتاباتها شرعية مستمدة من رؤيتها، أو أن سنجابى أغناها بمغامراته الطريفة والشجاعة عن الشكليات، فأرادت أن تجمع فى شخصه كل عتبات النص، من الغلاف إلى الإهداء، ومن الفاتحة النصية إلى الخاتمة، ترى لمن تهدى تحياتها ومشاعرها وهى مغرمة بسنجابها حد الإنبهار؟
إن الصراع بين الإنس والجن، بدأ منذ خلق آدم، ولا يزال مستمرا إلى غاية اللحظـة، ولن ينتهى مادامت الحياة حياة، فهو عراك كونى أبدى، واكب مراحل تطور الإنسان، وظل يطارده فى واقعه وخياله، وفى يقظته وحلمه، ويحدث أن يستوطنه مدى حياته، لا أعتقد أنه سيتوقف لسبب أو لآخر، حتى يطوي الله الأرض ومن عليها.
فوستيكا سيدة الجن وقائدته، تحاول السطو على الواقع، قصد ضمه إلى ملكها، لتصبح سلطانة الإنس أيضا، تخوض حروبا ضارية ضد الملك وجيوشه، من أجل الاستحواذ على قلعة المحبة التى تحظى بمكانة مقدسة فى حاضر المملكة وماضيها ومستقبلها، فالدفاع عنها والموت لأجلها كان فى نظرهم من الطقوس، السائدة بين سكان المملكة، بعد معارك طاحنة استطاعت فوستيكا أن تقهر الجيوش، وتستولى على القلعة، وتتزوج أحد الخونة من الإنس، وتنجب منه ولى العهد الهجين الذى سيرث الملك بعدها، غير أن ذلك لم يدم طويلا، فما إن تحقق ميلاد ولى العهد المنتظر بشامروكا وكبر واشتد عوده، حتى تغيرت موازين القوى، إذ احتدم الصراع على أكثر من جبهة، وبشكل يعتمد على الذكاء.
نشأ بشامروكا مع رفيقتة توتو، وفى بيئة واحدة، وقد عرفت العلاقات بينهما فى البدء بعض التشنج والتوتر، فجأة تحول النزاع بينهما إلى صداقة متينة بما حبات اللوز فعلت فعلتها، أو أنه اقتنع بشجاعتها، بعد أن خاض معها منازلات تركت توتو محلها فى المدينة، لم تعد ترغب فى مواصلة الإتجار بالسناجب البربرية، بعد أن انبهرت بشجاعة رفيقها بشامروكا، فأصبح همها الوحيد كيف تساعده لتحرير قلعة المحبة، يركب الصديقان البحر معا على ظهر قارب، ويواصلان التجديف إلى أن يبلغا غابة كثيفة تعيش فيها السناجب، من هناك تبدأ المواجهة، فتبرز شجاعة بشامروكا ويتضح ذكاء توتو.
عندما تناول بشامروكا حبات اللوز، تحول إلى سنجاب عملاق ايقدر على مقاومته أحد، فحرر جده الملك وحرر قلعة المحبة من الشياطين، ولأن علاقة الحب بينه وبين توتو بدأت تتبرعم فى الخفاء، مما جعلها تسافر على ظهر عصفور إلى فلسطين، من أجل إحضار مادة الثوم لعلاج صديقها بشامروكا يونوفيس، وبما أن اسم فلسطين ورد فى القصة، وأن الصراع كان يدور حول قلعة المحبة، وهذه إشارة إلى مكان مقدس، لذا فإن أحداث القصة يمكن إسقاطها على واقع فلسطين وقدسها المقدس.
إن أجمل ما يكتشفه المتلقى وهو يقرأ نص (أسطورة سنجابى)ذلك الفضاء الإفتراضى الرحب الذى شكلته الكاتبة، وحبكته بدقة متناهية، مما يجعل القارىء يقبل بشغف على قراءة النص، ربما استنبطت الفكرة من قراءاتها المستفيضة لبعض الأساطير القديمة، أو من كثرة متابعتها للأفلام الموجهة لليافعين، مما ساعدها على بناء واقع موازى، استطاعت من خلاله تمرير أفكارها بسهولة عن طريق تحريك آلية التخييل، لأستنساخ لوحات من العصور الغابرة، وقد تسنى لها ذلك بتمديد العامل الزمنى بذكاء إلى ذلك الواقع، الذى ساد فيه منطق القوة على الأرض، وكان لظاهرة البطولة مغزى رفيعا فى بناء مجد الفرد وعشيرته، وخاصة إذا ماتعلق الأمر بمجابهة الحيوانات المفترسة، والشرسة والتغلب عليها، أو الإنتصار على الجيوش الجرارة، التي لكثرة ما انتصرت، أصبح الناس يعتقدون أنها لا تقهر.
المتأمل فى تجربة الكاتبة تركية لوصيف يستشف أن كتاباتها تطرح أسئلة متعددة، ومتداخلة فى آن واحد، تتعلق أساسا بجوهر التجربة، التى تخوضها فى الكتابة من جهة، وبطريقة التناول من جهة أخرى، مما يثير اهتمام القارىء والناقد على حد سوى، وانطلاقا من منظور تجربتها فى نص (أسطورة السنجاب)، وماتضمنه من أبعاد رمزية، ودلالات، وإيحاءات، نجد أنفسنا أمام ظاهرة إبداعية جديدة، لها من القيمة الفنية ما يجعلها محل احترام، حيث اعتمدت الكاتبة على طريقة المزج التى أحدثتها بين القصة والسيناريو، لنستنبط فى النهاية لونا أدبيا ينضح ببصمتها، لون له امتدادات وعمق زمنيين، يمكن تصنيفه فى أدب الميتاسردية.
لم تجد الكاتبة صعوبة في الانتقال من العوالم الواقعية إلى العوالم الخيالية الممكنة، وهذا ماجعل المتخيل ينزاح، متجاوزا الزمان والمكان، ليتخذ منحنى إبداعيا نفيسا، مادته الأولية الأحلام والخيال والأسطورة والمحكيات الفانطاستيكية، تعجيبا وتغريبا، نظرا لما تحمله من خوارق، وقد تلاءم ذلك مع أفكارها طرحا وتناولا، كما وكيفا، تشكيلا ورؤية، سردا وسياقا، وتناسبا مع ميول وأذواق قراء عصرها.
لم تتوقف الكاتبة عند هذا الحد، بل ذهبت إلى ماهو أبعد، حيث نحجت فى عملية إسقاط أحداث القصة على واقع معين، إذ أن كل من يقرأ نصها، يستشف أنه يتوجب عليه أن يتمسك بحق الدفاع عن معتقداته ومقدساته وممتلكاته. تحية للكاتبة.
الروائي الناقد جايلي العياشي