الكتاب عالم قائم بذاته، ليس مطالعة وفائدة ومتعة فحسب، بل متابعة دقيقة ومستمرة في البحث عن جديده، وعن كتّابه وعشاقه وطقوسه وأجوائه، من خلال وسائل الإعلام ومن خلال الحصص الإذاعية والتلفزيونية. أتذكر سنوات التسعينيات كنت أحرص على متابعة حصة إذاعية أسبوعية، تبثها إذاعة القاهرة، عنوانها: “زيارة لمكتبة فلان”. فكرة الحصة تنطلق من زيارة، تقوم بها منشطة الحصة وهي الإعلامية نادية صالح، إلى المكتبة المنزلية لأحد الأسماء الأدبية والفنية الكبيرة في مصر، تسأله عن الكتب التي شكلت فكره ووجدانه، عن ترتيب كتبه، عن أحب الكتب لديه، عن الكتب التي تحمل ذكرى مؤلمة أو سعيدة.
هكذا استضافت الحصة، العديد من الأسماء الأدبية والفنية المعروفة مثل: نجيب محفوظ، أنيس منصور، مصطفى محمود، توفيق الحكيم، صلاح جاهين، سهير القلماوي، زكي نجيب محمود…الخ؛ وأيضا الموسيقار محمد عبد الوهاب، والفنان عبد الحليم حافظ.
من كثرة إعجابي بالحصة، وحرصي على متابعتها كل أسبوع، كتبت مقالا عنها، نشرته يومها جريدة السلام (في 29 أوت 1992)، لا زلت أحتفظ بقصاصته؛ لكن الجريدة لم تنشره في صفحتها الثقافية بل في صفحة القراء! في المقال تحدثت بالتفصيل عن حلقة من البرنامج شدت كثيرا انتباهي، خصصتها للأديب يحيى حقي. هكذا انتقلت منشطة الحصة كالعادة إلى منزله، لتتفاجأ بأن مكتبته فارغة تماما من الكتب، وأمام دهشتها، أخبرها يحيى حقي، بأنه تبرع بمكتبته (أزيد من 3000 كتاب) إلى مكتبة جامعة ألمنيا المصرية.
عندما سألته المنشطة: هل تشعر الآن بالندم على التبرّع بمكتبتك؟ أجاب صاحب “قنديل أم هاشم” قائلاً: “كأنما انتزعت قلبي مني، طبعا، لكنني أحسست بنوع من النشوة والسرور، بأمل أن أرمي بذورا في حقل، ليس بالضرورة كلها تنبت، يمكن أن يقع كتاب ما، عند طالب واحد، قد ينفعه”.
ونظر لأهمية البرنامج وقيمته، تم تحويله إلى كتاب بنفس العنوان، صدر سنة 1998. كما أن الإذاعة المصرية، أتاحت معظم حلقات البرنامج، وبجودة عالية، في أرشيفها الإذاعي، لمتابعته على اليوتوب.
…
من لم يقرأ “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، ضيّع الكثير من جمال اللغة والسرد والمعنى. رواية القضية الفلسطينية بامتياز، تقول الغبن والتشرّد والمأساة، في صفحات قليلة، لا تتجاوز 90 صفحة. رواية ناجحة من حيث المقروئية الواسعة التي حققتها، ومن حيث الترجمة إلى لغات عديدة في العالم.
قرأتها أكثر من مرة، وتأثرت كثيرا بمصائر أبطالها الثلاثة، ورغبتهم الملحة في الهروب إلى الكويت حيث النفط والثروة. شاهدتها كذلك، فيلما جميلا يحمل عنوان: “المخدوعون”، من إخراج المخرج المصري توفيق صالح، وقد حقق هذا الفيلم، مثل الرواية، نجاحا كبيرا.
أتذكر أنني اشتريت هذه الرواية من السوق الأسبوعي لمدينتي، نهاية الثمانينيات وبمبلغ زهيد: 20 دج؛ اشتريتها من بائع كتب متجوّل، يبيع كتبا مفروشة على الأرض، كما يفعل بائعو الأثاث والأواني. للأسف ظاهرة بيع الكتب في الشوارع والأسواق الشعبية، اختفت تماما، مثل جميع الأشياء الجميلة.
عندما اقترب ابو خزيران صاحب الشاحنة التي تقلّ الفلسطينيين الثلاثة مختبئين داخل الخزان، من الحدود؛ كانت شمس الصحراء محرقة لا تطاق، توقف أمام نقطة مراقبة، يحاول إمضاء وثائقه بسرعة، لكن تهكم الموظفين وسخريتهم منه لإمضاء الوقت معه، جعله يتأخر عن الالتحاق بالشاحنة؛ وسرعان ما اكتشف فظاعة المأساة.. وهنا تأتي عبارة غسان كنفاني الشهيرة، مختتما الرواية، على لسان سائق الشاحنة؛ الذي كان يصرخ، وهو في حالة هستيرية: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟”.
هذه العبارة القويّة بدلالاتها وعمق معانيها، كتب يحللها عشرات النقاد العرب، وألهمت الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، رسومات رائعة الجمال والمعنى.
بوداوود عميير