حضرت منذ سنوات الاحتفال باعتماد موسيقى أهليل ضمن التراث الإنساني اللامادي من طرف اليونيسكو. جرى الاحتفال في الفضاء الخارجي لقصر الثقافة بالجزائر العاصمة. كانت هضبة العناصر المشرفة على البحر تعج بالناس من كل الفئات والأعمار والألوان. تعرفت من بعيد على بعض الفنانين وبعض الشخصيات الثقافية ورأيت كثيرا من العائلات مع أطفالهم. كان المضيفون والمضيفات يوزعون المشروبات والحلوى على الضيوف. أجواء العرس الجزائري في شكل حفل حديث. أهليل تراث عريق جدا يتم الاحتفال به بشكل حديث جدا، إيقاعات الأهليل وأصواتهم تشكل خلفية مرحة تزداد قوة مع الاقتراب أكثر من القصر والتوغل وسط الحاضرين. لم أتعود على حضور الحفلات الرسمية ولا أرتاح كثيرا لأجوائها لكنني هذه المرة حضرت تلبية لدعوة وزيرة الثقافة بإلحاح من صديقي الذي كان مستشارا ويعرف جيدا نفوري من هذه الأجواء. أحاول أن أفهم سبب إصراره على الحضور. كانت فرصة للقاء به أيضا. تقدمت أكثر وسط الحاضرين. بعض الصحافيين يريدون اخذ تصريح سريع بالمناسبة. معذرة لم أطلع بعد على الحيثيات. بعض الزملاء من الجامعة في تصريح للقنوات العربية. تخصصوا في الحديث عن الربيع العربي. ما علاقتهم بأهليل؟ بعضهم يتحدثون عن نفس الموضوع في كل القنوات. لا أريد أن أعرف. من بعيد رأيت صديقي يحادث جماعات من الضيوف تركهم حين رآني واتجه نحوي. ترك وراءه مشهد حلقة دائرية كبيرة لا يظهر جيدا ما يدور بوسطها. تقدمت أكثر والتقينا في منتصف المسافة والإيقاعات تعلو أكثر فأكثر والحلقة تكبر والدائرة تصبح تجمهرا حقيقية حول مركز تصدر منه إيقاعات الأهليل.
لم يفقد صديقي بشاشته ولا أناقته ولا نباهته. بعد السلام سألني في صيغة ودية: أرجو ألا يكون الجو قد خيب انتظارك. لا لم انتظر شيئا. يكفي أن نلتقي. لا أذكر ماذا كان موضوع حديثنا. عادة نتناول موضوعات كثيرة. ثم سألني فجأة : هل رأيتها؟ أعني الوزيرة. لا. لم أرها. ولم يسبق لي أن التقيت بها. جرني إلى الحلقة التي تتسع وتلتهم الحاضرين. نعم كان الحاضرون كلهم يشاهدون الوزيرة التي كانت تتوسط الدائرة الكبيرة. لم يكونوا يتكلمون ولا يتحركون. ينظرون فقط. الوحيدة التي كانت تتحرك وتتقدم وتتأخر وتتلوى يمينا وشمالا ولكنها لا تنظر إلى أحد هي الوزيرة. كانت ترقص.
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي انطلق الباحثون في ربوع الجزائر لدراسة المجتمع في تجلياته المختلفة، قام الباحث المثقف مولود معمري بالإشراف على تسجيل ممارسات ثقافية مهمة في مناطق مختلفة. بلادنا تتمتع بثراء ثقافي كبير لكن من اهتم بتسجيل ما رأى أو سمع؟ من بين التسجيلات النادرة أغاني الأهليل في منطقة توات. تسجيلات أخرى للتراث الشفوي الحكائي والشعري بمنطقة القبائل. ماذا لو كان في كل منطقة باحثون يهتمون بتسجيل التراث غير المكتوب؟ أغاني وقصص وأشعار وشعائر وطقوس؟؟ لم يكن أحد يهتم بالأمر في تلك المرحلة. التنمية والتطور والتقدم كانت أيديولوجيا مهيمنة لا أحد يمكنه الوقوف في وجهها. الدكتور أبو القاسم سعد الله تخصص في التاريخ الثقافي المكتوب وكان على رأس “مدرسة” في التاريخ تهتم أكثر بالمكتوب والفصيح والوطني. لا حظ للشفوي والمحلي وغير الفصيح. تراث المنطقة المغاربية غير المكتوب كله معرض للتلف والضياع. كم يلزمنا الآن من مولود معمري لتسجيل التراث المهدد بالنسيان؟
كان المرحوم مولود معمري باحثا لا يكتفي بقراءة الكتب بل يسافر ويتحرك ويرصد حركة الواقع. في إحدى سفرياته نحو الجنوب التقى برجل من نوع خاص هو مولاي سليمان الصديق المعروف بمولاي تيمي. عارف بالفنون وبالتاريخ المحلي وأكثر من ذلك فنان يشارك في حفلات أهليل بمنطقته. تيمي تعني الحاجب في لغة زناتة. وهي الاسم القديم لأدرار. قد تكون تيميمون جمع تيمي. مولاي تيمي هو المفتاح الذي ادخل الباحث القدير إلى عوالم الأهليل ودله على الأسرار. كان دا الملود ضيف مولاي سليمان لشهور عدة فيما كان هو دليله إلى الأسماء والمعالم والنصوص. سجل مولود معمري الطقوس الاحتفالية سمعيا وأثبتها كتابيا ونشر مقالات عديدة بالاشتراك مع باحثين متعددي التخصصات في مجلات علمية معروفة عالميا. لقاء العمل الأكاديمي بالخبرة والإبداع المحلي رفع هذه الممارسة التي كانت مهددة بالزوال إلى مصاف التراث العالمي.
في تسعينيات القرن الماضي بادر مجموعة من المثقفين المغاربة بتقديم فكرة التراث الثقافي الإنساني فقامت اليونيسكو بعقد ندوة بمراكش سنة 1997 صيغت فيها أهم الأفكار والرؤى التي ستتضمنها اتفاقية التنوع الثقافي. كانت الجزائر من بين البلدان المصادقة عليها وقدمت أول مشاريعها سنة 2003 ممثلا في أغاني أهليل قورارة هذه، عرض المشروع على لجنة من الخبراء الدوليين وتم اعتماده من قبل اليونيسكو سنة 2008. كانت النسخة المقدمة هي تلك التي سجلها المرحوم مولود معمري. لذلك كانت الوزيرة ترقص بانتشاء.
رقصة لم أر مثلها من قبلن رقصة على أنغام الأهليل. قال صديقي البشوش معلقا: هذه سياسة وليست رقصا. أجبت: نعم السياسة الرقص.
كن متى كانت السياسة من احتكار الوزيرة؟ لماذا لا يرقص الناس على أنغام الأهليل التي سجلت تراثا إنسانيا في الاحتفال بالمناسبة؟ هل الثقافة أيضا من اختصاص الوزيرة وحدها؟ مادام الناس يرون أن السياسة من اختصاص الرئيس والثقافة من اختصاص الوزيرة فالمشكلة عميقة جدا. تتجاوز الوزيرة والرئيس إلى المجتمع برمته. مجتمع تخلى عن كثير من مميزاته سعيا للاندماج في حداثة لم يمتلك شروطها فتحمس للاندماج في تراث الآخرين. كثير من الشباب -ومن المثقفين أيضا- يعرفون كل شيء عن مصر والشام والحجاز والخليج لكن يجهلون كل شيء عن تراث أجدادهم، ويرون ذلك أمرا طبيعيا. أكثر من ذلك قد يتبرؤون من بعضه ويرونه سبة ومعرة أمام الآخرين. الملابس والموسيقى وأساليب العيش وكيفيات بناء المساكن وتأثيثها وحتى طرق العبادة وترتيل القرآن والآذان… كلها أصبحت تشبه ما يرونه في القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية…
التراث الثقافي كله معرض للنسيان والتلف بسبب تخلي الناس عنه واعتمادهم ممارسات أخرى وافدة عبر وسائل الاتصال الجديدة. الإذاعة والتلفزيون والإنترنيت. بعض الشيوخ حرموا الموسيقى وصدق كثير من الناس أن أجدادهم كانوا على خطأ، توقفت الأغاني الشعبية في الأعراس منذ زمن. أصبحت تسمى تراثا. بفتوى بسيطة انتقلت من ممارسة حية إلى تراث مهدد بالزوال. وفي بعض الأحيان صار الجزائري يخشى من أن يكتشف ذات فتوى أن أجداده كانوا يمارسون ما لا يرضاه شيوخ الفتوى. الرعب يسكن ذاته المتشظية بين ماض لم يعد يعرفه وحاضر لا يمتلك أسباب التحكم فيه. هل سيكون على الجزائريين تسجيل تراثهم ضمن التراث اللامادي للحفاظ عليه من التلف؟
بعد عشريتين من ظهور الفكرة لم تسجل الجزائر سوى عدد قليل من الممارسات الثقافية ضمن التراث اللامادي للإنسانية. في المقابل كم عدد الممارسات التي تخلى عنها الناس وطالها النسيان؟
بعض الممارسات الشعائرية وقعت تحت طائلة الحضر والتحريم من قبل أصحاب النزعات التطهرية. ماذا لو وقعت بين أيديهم سلطة لتنقيح الممارسات الإسلامية نفسها؟ الم يستهجن الخليفة عمر تقبيل الحجر الأسود؟ ماذا عن شعيرة الطواف بالكعبة؟ ألم تكن سابقة للإسلام؟ فلماذا إذن تحارب شعائر التعبد في الزوايا والطرق في المنطقة المغاربية كلها وأغاني الفرح في الأعراس وأساليب العيش وأزياء اللباس؟ من يسجل كل هذا التراث لدى الهيئات الإنسانية إذا كانت المؤسسات الرسمية نفسها تستجيب لدعوات التطرف أكثر مما تستمع لدعوات العقل؟
حينما تكون للدولة رؤية سياسية واضحة يمكنها أن تضع سياسة ثقافية قابلة للتحقيق. أما حين تخضع المؤسسات للضغوط فربما تصبح مصدرا للخطر.
التصريحات النارية الصادرة عن وزير الشؤون الدينية ضد بعض التيارات الدينية عززتها الدعوة الأخيرة من جمعية دينية للقضاء على بعض الزوايا الطرقية تصب في هذا الاتجاه.
لم يعد الناس يعرفون الطرق الدينية التي تربى عليها أجدادهم وكانت حصنا أمام الاستعمار. يعتقد الكثيرون أن الدعوة الوهابية ممثلة في جمعية العلماء المسلمين التي كان تتعاون مع الاستعمار لتهذيب المجتمع الجزائري هي التي حافظت الإسلام في الجزائر. بعضهم يعتقد أن ظهور طرق وتيارات جديدة خطر على الوحدة الوطنية. وبعضهم يرى أنها خطر على الإيمان. وآخرون يرونها خطرا على الأخلاق والصالة أو على الحداثة أو على أي شيء مشابه.
نعم لعلها خطر على طمأنينة الكسالى الذين يكتفون بما تنشره القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية التي تعزز طمأنينة الإيمان الجماعي. طمأنينة الانتماء إلى امة وسطية من طنجة إلى جاكرتا حسب صياغة المناضل الوهابي الجزائري الشهير: مالك بن نبي. هناك من يعتبره فيلسوفا… مادامت صياغته مقبولة في مراكز الوهابية والإخوانية العالمية. المراكز التي أنتجت صورة الإسلام الإرهابي وسوقتها على أوسع نطاق. هي نفسها التي تشكل خطرا على التنوع الثقافي والديني في المجتمعات الإسلامية كلها بما أنها تسعى جاهدة للقضاء على كل مظاهر الاختلاف في الفكر والعقيدة والسلوك واللباس والعلامات وصولا إلى تمهيد قاعدة الخلافة التي لا تغيب عنها الشمس.
لذلك فإن ظهور المختلف الديني ممثلا في طريقة مختلفة شكلا ولونا وممارسة وسلوكا فجر كل السلفيات الثقافية المهيمنة. منهم من اعتبرها مغربية جاهلا –أو منكرا- أصولها الجزائرية. ومنهم من تساءل : من أين نزلوا علينا؟ معتبرا إياهم نوعا من الكائنات الفضائية. ومنهم من تساءل : ماذا يقدمون لنا؟ لعله في انتظار أن يقدموا لها سكنا أو قرضا مصغرا. ومنهم من رأى فيهم خطرا على الله أو على الوطن أو على أخلاق الشباب. يا لهشاشتكم.
تخلى الجزائريون عن معظم تقاليدهم بدعوى الحداثة التي كانت تقودها الدولة في السبعينيات والثمانينات. توقفت الصناعات التقليدية تحت ضربات التصنيع الثقيل وانتقل معظم الحرفيين إلى المغرب أو تونس. توقفت بعض الزراعات أو انتقلت إلى البلدان المجاورة. بذور بعض أنواع القمح العريقة صارت علامة مسجلة باسم مؤسسات فرنسية. أنواع التمر الجيدة لا تصدر باسم الجزائر بل تصدر دون تعليب لبلد مجاور ثم يتم تعبئتها من هناك على أنها منتوج من ذلك البلد. اختفى البرنوس والقندورة والحايك والمرمة والعجار التي كانت صناعات محلية متوراثة عن الأجداد وحل محلها القميص والخمار والبرقع التي تأتي من مراكز الصناعة الوهابية والإخوانية البعيدة. بعض أنواع الفخار والزرابي والطرز والسجاد صارت علامات مسجلة مغربية أو تونسية لأن المنتجين وجدوا سوقا تغذيها السياحة هناك ولم يجدوا دعما من حكومات بلدهم. بلد الصناعات الثقيلة…
عند توقف مشروع دولة الاستقلال حاول الجزائريون البحث عن شيء يتمسكون به. وجدوا أنفسهم مضطرين إلى استيراد السلع والأفكار والمذاهب.. هكذا انتشر السلفيون العلميون والحركيون والإخوان والتكفيريون والحداثيون والعلمانيون جنبا إلى جنب مع القميص والبنتاكور والخمار والبرقع والبيكيني والبوركيني.
كل ذلك يحدث ويعتبر عاديا. أما أن تظهر في الساحة العامة أشكال وألوان كانت موجودة منذ قرون فقد أصبح ذلك يستدعي القيام بتحقيقات تقودها السلطات الأمنية. الجزائري أصبح يخاف من تراثه. الخوف من الذات هو أشنع أنواع الخوف. خوف يشل الذات عن الحركة.
كانت الوزيرة ترقص لأنها تمارس السياسة. كانت هي صاحبة العرس. أما جمهور المدعوين فكان في حكم الغريب عن تراثه. كان في منتهى الخوف. لذلك اكتفى بالمشاهدة. وما يزال…
وأخيرا هذا مقطع مما يتغنى به أهلليل بالزناتية مع ترجمة إلى العربية الفصحى من صفحة الباحث خالد بن عبد الكريم من جامعة ادرار:
تيدت موشوميت وتينانن اديحير….. وتواننني يخادع مازيغنس
ويقدن ايربي اديلي يزماياس …. ومزقات اوغيلنس اديمود الباطل
ومقزل اوغيلنس الحقنس ايديضيع …اولاميسيول بيدن قاع اتلشين
………………………….
الحقيقة واضحة ولكن فعلها صعب …من يكذب فقد كذب على الله
من يخاف الله يستطيع قولها … من كثرت سلطته زاد جوره
ومن قلت سلطته …ضاع حقه لان الناس لا تحترمه
حتى وان تكلم قيل بانه مجنون
عاشور فني