الجمعة , سبتمبر 20 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / الثقافة / مساهمة علاوة وهبي: من ذكرياتي

مساهمة علاوة وهبي: من ذكرياتي

 

الكثير من الذكريات تلح علي الذاكرة طالبة الخروج الي عالم النور، أغلبها اعمل علي كبح جماحها، وأعمل علي دفنها في حفر عميقة داخل الذاكرة مرجا أمر بعثها إلى وقت آخر، لكن هناك من الذكريات التي طال انتظارها لدور بعثها فقنعت بأنها قد لا يطلق سراحها من سجن الذاكرة نهائيا، حتى ان بعضها عندما حاولت اطلاق سراحها رفضت ولم ترى في تحريرها سوي عبودية جديدة لها قد لا تطيقها أو أنها قد لا تتحمل خروجها وتعرضها لأشعة الشمس وعيون القراء، وأقنعتني بالبقاء في المكان الذي هي فيه، ولكن قد يأتي اليوم الذي تطلب فيه الخروج الي دائرة الضوء، هي هكذا الذكريات معي، لا تخرج إلا عندما تطلب هي الخروج، أو تقتنع هي بان زمان خروجها من أغوار الذاكرة قد حان، اليوم أجد هذه الذكرى تلح في الخروج ومنذ نهوضي من النوم صباحا وهي تلاحقني، طالبة اطلاق سراحها وتحريرها.

وقد وجدت نفسي أرضخ لرغبتها عاملا على تسجيلها بالحروف حتى لا تقبر مرة أخرى لأنه لو حدث ذلك فلن تخرج بعدها أبدا.

يتعلق الأمر بواحدة من مسرحيات الكاتب التونسي الكبير والرائع عز الدين المدني، الذي ربما هو أكثر كتاب المسرح في الوطن العربي اشتغالا علي التراث العربي الاسلامي وقد صدرت له مجموعة من النصوص المسرحية محورها الاساسي هو التراث يمكننا ان نذكر منها ثورة صاحب الحمار والزنج والبحر الوافر ونصوص اخري لن نستمر في ذكرها، وعز الدين المدني كاتب يكتب القصة القصيرة كذلك وله فيها باع طويلة وإبداع غزير وبأسلوب يخصه وقد لا يشترك فيه مع كتاب اخرين ويعد واحد من المجددين في انفاس القصة القصيرة في تونس وكم كنت وما زلت في الحقيقة معجبا بقصصه كما انا معجب بنصوصه المسرحية.

اليوم وبإلحاح من ذاكرتي سأتحدث عن نص جميل جدا مز نصوصه المسرحية حول موضوع لم يسبق لي ان قرات لكاتب اخر نصا فيه وهو قصة السيد علي ورأس الغول.

هذا النص تعود حكايتي معه الي اواخر الستينات من القرن الماضي ومنت ايامها ممثل في فرقة المركز الثقافي الجهوي قسنكينة، (كراك). النص قرأته في مجلة (أنفاس) التي اصدرها الشاعر المغربي التقدمي عبد اللطيف اللعبي رفقة مجموعة من الكتاب المغاربة، أغلبهم يكتبون باللغة الفرنسية، ولكن المجلة كانت مزدوجة اللسان (المجلة صدرت بدءا من سنة 1966 وتوقفت عن الصدور سنة 1972)، ونشر نص عز الدين المدني في احد اعدادها المبكرة، وباللهجة التونسية القريبة من الفصحى أو ما اصطلح البعض على تسميته باللغة الثالثة نص جميل، اسطوري تاريخي ونص اجتماعي حي فيه الواقع اليومي كذلك بحيث ان الكاتب زاوج فيه بين التاريخي الاسطوري مستمدا اياه من قصة السيد علي رضي الله عنه وكرم وجهه، وبين الواقع اليومي في تونس ايام حكم الرئيس بورقيبة واستخدم في ذلك ما كانت الساحة المغاربية تعرفه أو عرفته من قبل، المداح او القوال او الراوي لكل واحد اختيار التسمية التي تعجبه، في تلك السنوات كنت شغوفا الي اقصي حد بالوقوف علي ركح المسرح، وما ان قرأت نص والمدني حتى وقت في حبه وشغفت به وأحببت رؤيته مجسدا علي ركح المسرح، فأخذت النص الي الصديق الشريف الجيلالي وكان مسيرا لمسرح قسنطينة التابع سنواتها ولإدارة المسرح الوطني الذي كان يديره الراحل مصطفي كاتب، وكان الشريف الجيلالي من المؤسسين لفرقة (كراك) وقرأنا النص على فترات وأعجب هو الآخر بها وتقرر انتاجه في فرقة (كراك)، بدأنا نعد العدة لذلك وضع خطة الاخراج ومن يتولاه وتوزيع الشخصيات علي الممثلين ومن يقوم بوضع تصاميم الديكور(يومها لم يكن مصطلح السينوغرافيا مستخدم) أي اننا رحنا بكل همة وجدية نحضر للأمر وقررنا ان يكون هذا العمل هو العرض الافتتاحي لموسمنا المسرحي الجديد 1968. 1969)، لكن تجري الرياح بما لا تشهتي السفن كما يقال، إذ حدثت بعض الأمور أخرت إنتاج هذا النص والذي عوضناه بنص شرارة في (القصب) لكاتب صيني. نص عز الدين المدني بقدر ما نص من التاريخ بقدر ما هو نص سياسي كذلك، وكان ذلك من الاسباب التي عطلت انتاجه. هذا النص الجميل لكاتب كبير ظل يسغلني لسنوات وما زال في الحقيقة يشغلني وما زلت أتمنى مشاهدته مجسدا على ركح المسرح وكم من مرة تحدثت عنه وأشدت به في جلسات مسرحية، إنما ما حز في نفسي أن أحدهم أخذ مني المجلة التي نشر بها النص على سبيل استلافه للقراءة وإعادته، ولكن الذي حدث أن هذا الشخص وقد نسيت اسمه وذلك لحسن حظه لم يرجع لي عدد المجلة وبالتالي ضاع مني النص ولكن حلمي بمشاهدته على الركح ما زال قائما، رغم انني شاهدت ما يشبه ذلك فوق الركح، إذ هنا من قام بأخذ النص (اختلسه) وأعطاه اسما آخر وقدمه والحقيقة انني رأيت مجزرة ومذبحة ارتكبت في نص المدني وفي حق المدني ذاته، وقد يأتي اليوم الذي تطالبني فيه ذاكرتي بتعرية صاحب او اصحاب المذبحة في حق نص المدني (السيد علي وراس الغول) وما زالت عندي قناعة كذلك بان الذاكرة ستعيد لي ذكر اسم الشخص الذي اخذ مني المجلة ووعدني بإرجاعها ولم يفعل.

ذكريات كثيرة تتزاحم في رأسي مطالبة بتحريرها وإخراجها الى النور، وأنا أراوغها وأؤجل خروجها، لكنها كلما تغلبت علي خرجت رغم انفي مثل هذه الذكرى التي تقرؤونها الان.

 

علاوة وهبي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Watch Dragon ball super