تزامنا مع انطلاقة الدورة الاولى لمهرجان المسرح الوطني التونسي التي حملت اسم الفنان الراحل الرائد المسرحي المنصف السويسي …
هبوبٌ مثمر صوب السيدة الحقيقة، نُسيمات عذبة ترافق ميلَ الدلال جهة بستان المسرح .. المسرح .
ضوءٌ كشاف مبهر في سِفرِ قيم الخير والعدل والحرية والجمال .. مدٌّ من القلق الناري وعطاءٌ لا يَمَل لهذا المسرحي الجوال في دنيا المسارح ومسرح الحياة، هذا الفلاح الاصيل في المسرح التونسي، الدائم الفعل والفاعلية، حتىٰ وان كرّمَهُ المسرح ببعضٍ من سويعات الهدوء والراحة، او اويقات من الاجازةِ المُنجزة…
المنصف السويسي، ابن تونس.. ابن الحلفاويين، هذا الذي انّىٰ حلّقَ وحطَّ، تحتفلُ به رفقة طيبة وصادقة من مبدعي المسرح العربي، وتطوف به، لصقه وحواليه جنيّات الخلق والابداع، بامشاطهن الكبيرة الملوّنة يُمسدن خصلات شعره الاجعد، بزيوت الطيب وماء الحياة يُعطرن شذاه، ويخلعنَ عليه طيلسان التمدّن والحضارة …
اعتقدُ جازما انّ ايّ راصدٍ مُنصفٍ، يودّ الطواف الحق باسماء الكوكبة المسرحية المتفردة، التي أضاءت ليالي المسرح وأطربت أيامه، هزّت عروش سواكنه وثوابته، وسقت نسيجه باكسير الحيوية والحضور المؤثّر، الا وان يُنصف هذا المُنصف، هذا الدرويش الذي شبكَ عصاه الساحرة بعصيّ دراويش اخر، ليُحرّك الحياة في نهر المسرح التونسي وفي فترة ذهبية من تاريخه البهي …
واذْ يطيب للمتحدّث ان يذكر اسماء باقة المخاطرين الذين أدمنوا فورة المشاكسة لثوابت المشهدية للمسرح التونسي والعربي، فبالتاكيد يكون هذا المنصف واحدا من بين هؤلاء الذين أداموا ويُديمون بذرة الحياة في جسد المسرح العربي، هؤلاء الذين ما انفكوا بمغامراتهم المتلاحقة، باطروحاتهم الجمالية الغنية، ومخاطراتهم الجريئة، يزرعون تربته بنباتات المشاريع المدهشة التي تقاوم الجوع والعطش … واضطراب مزاج الفصول …
لم تقف رحلة المنصف عند تخوم المسرح فقط فضاء للقول والفعل، انما جرّب السياحة المبدعة، المُخالفة والمُتفقة والرافضة في ميادين إبداعية اخر، وهي منطلقات فنية لها مرجعيتها في ثقافته المسرحية وشرطية تكوينه المسرحي، بحيث أن هذه غازلت مكنونات تلك، وتلكَ أضاءت دروب ومجاهيل هذه …
مَن منّا لا يتذكر تجربة المنصف، مع آخرين، في لَمِّ شتات المسرح في تونس، ضمن تنظيم المسرح الوطني التونسي، وكيف كانت شُعَل التجارب المسرحية في تلك السنوات بمثابة سفارات جمالية تُعرّف بالمسرح التونسي في إطار محيطه العربي، ومن مِنّا لا يتذكر إبداع المنصف السويسي في إظهار واشهار تجربة مهرجان قرطاج الدولي للمسرح، وجهوده الفنية والمكوكية في إنعاش وإدارة مفاصل هذا المهرجان الهام، وتاكيد هويته، مراميه، وشخصيته، ليس فقط علىٰ مستوىٰ الحياة المسرحية التونسية، وانما علىٰ مستوىٰ المسرح العربي والعالمي ككل .
وحتىٰ علىٰ مستوىٰ الجهد الصحفي والثقافي والتوثيق المسرحي، كان هناك وضوحا وحضورا لافتا للمنصف السويسي برفقة اسماء تونسية، من خلال ابداعه ذلك المطبوع المسرحي المميّز الذي اثرىٰ الثقافة المسرحية، التونسية والعربية بالعديد من الدراسات والتراجم والحوارات والنصوص والسير والمتابعات النقدية، حتىٰ اضحىٰ مرجعا للمتابعين والدارسين، ولمن ابتليَ بعشق ذلك الهَم الجميل … المسرح، واعني به مطبوع ( فضاءات مسرحية ) …
ومن خلال مسؤوليته كفنان عربي، خدمَ المسرح في هذا البلد العربي او ذاك، وجدَ المنصف تناغما اكيدا وطبيعيا في تلبيته للدعوة الموجهة اليه من الاتحاد العام للفنانين العرب بشخص رئيسه المرحوم الكاتب من مصر العزيزة سعد الدين وهبه، بغية انجاز حياة المشروع المسرحي الاول لهذا الاتحاد الفني، علىٰ طريق النيّةِ القضيّة في لَمِّ شمل فناني هذه الامة وظفر جهودهم في تجربةٍ مسرحيةٍ عربية مشتركة، الغرض منها زرع بذور التلاحم والتقارب والتعارف، وتبادل الخبرات وتصديرها، طموحا في تطوير استعداداتهم وشحذ قدراتهم الذاتية، والارتقاء بالحلم القُطري باتجاه حلم عربي اشمل للمسرح الذي نُفكر ونعمل ونطمح الا وهو المسرح العربي، فكانت مسرحية ( واقدساه )، نص الكاتب العربي من مصر (يُسري الجندي )، واخراج الفنان العربي من تونس العزيزة (المنصف السويسي)، التي احتفلت برفرفة عشرة اعلام لعشرة دول عربية علىٰ خشبة مسرح واحدة، في تجربةٍ هي الاولىٰ من نوعها للعمل العربي المشترك، بعد التجربة الخاصة للفنانة العربية من لبنان العزيزة، السيدة نضال الاشقر .
وكم حلمنا ان تكون تجربة (واقدساه)، نواة تأسيس لمشروع عربي مُتحضّر لآلية العمل العربي المسرحي المشترك، كونها تمكنت ان تُنجز العديد من مفردات أجندتها علىٰ طريق التنادي والتعارف والحوار وتفادي الصعوبات في تنقل الفنانين العرب المشاركين، حتىٰ بات التفكير بشكلٍ جدّي بضرورة تكرارها، وان اختلفت الجهات المنظمة والداعمة، لان تجربة العمل العربي المشترك هي الطريق الأقصر لتطوير مشروعنا الفني والثقافي العربي، ودعم كافة الامكانات المتاحة لقيام تجربة مسرحية تعبر عن وجداننا وذائقتنا، تُعبّر عن خصوصيتنا في التفكير والانجاز …
الحديث عن تجربة واقدساه لا تكفيه هذه الإطلالة، لكن تحضرني هنا كلمة حق يجب ان تُذكر بشان أمين هذه التجربة وربانها، كوني شُرّفتُ أن أكون احد شهودها الفاعلين ممثلا لوطني العراق الىٰ جانب إخوتي الفنانين من الدول العربية … أقول كان لصبر المنصف السويسي، لسعة صدره ومرونته، وإصراره العنيد الدور الاهم في انباتها، حيثُ انه منحها من حيويته وصبره من وقته ومن حلاوة روحه الكثير .. كانت مجرّد امنية وبجهود المنصف وتلك الرفقة الطيبة من اخوتي المسرحيين الذين شاركوني مسؤولية هذه التجربة .. أضحت حقيقة، طبعا لا يمكن نسيان الذي تحرّك بشكل مكوكي بين أقطار الوطن العربي لكي يكون هذا المشروع إلا وهو الكاتب سعد الدين وهبه الأمين العام لاتحاد الفنانين العرب – مركزه القاهرة، والآن أتحدث عن هذه التجربة كتاريخ اعتزُ به واشتاقُ إليه .. وازفُّ نوادر الورد يُتوّجُ جبينَ قائدها .. صاحبا وفيّا، أنسانا وفنانا عربيا تُسعدنا طلعته اينما أشرقت .. يبقىٰ أبدا هو المنصف، لم تستطع سنوات رحلته الطويلة لا، ولا رحيله الصادم – رغم أن الموت حق – أن تطفئ جمرة إبداعه، الق إنسانيته وروحه الحلوة .. لا ولن تتمكن من إخفات ضحكته المُجلجلة، وطُرفه التي تُحيي سعادة المكان .. في المسرح .. وفي الحياة ….
لكَ ولأصدقائك الخُلّص …
كنتَ أيها المُنصِفُ .. مُنصِفا .
انـــتهى
عزيز خيون . مخرج وممثل وباحث مسرحي، ُؤسّس ورئيس مُحترف بغداد المسرحي . العراق – بغداد.