يعد محمد غفير المدعو موح كليشي، أحد الإطارات البارزة في فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني، ولد في قنزات بسطيف عام 1934 وانخرط بها في الكشافة الإسلامية قبل الانتقال إلى مدينة الجزائر لمزاولة تكوين مهني لمدة 3 سنوات لكنه اعتقل في بلكور لرفضه أداء الخدمة العسكرية لكنه تمكن من الفرار في سبتمبر 1955 وتوجه إلى باريس حيث انخرط ببلدية كليشي في جبهة التحرير الوطني وتولى مسؤولية قائد منطقة شمال باريس. تعرض للاعتقال مجددا عام 1958 وحكم عليه بالحبس ل3 سنوات قبل أن يطلق سراحه في 1961 ويعود إلى النشاط مجددا هذه المرة في جنوب باريس. خلال ما يعرف بمعركة باريس كان قائدا للولاية الأولى (جنوب باريس) وبالتالي أحد منظمي مظاهرات 17 أكتوبر 1961. في هذا الحوار يعود بنا إلى المظاهرات كحلقة هامة في تاريخ الثورة من منطلق كونها تتويجا لمسار طويل من نضال الجزائريين ضمن فيدرالية حركة انتصار الحريات الديمقراطية وفيدرالية جبهة التحرير الوطني في ما بعد وفاتحة عهد جديدا مهد لمفاوضات إيفيان التي كان المرحلة الأخيرة التي توجت بالاستقلال الوطني.
لنتحدث أولا عن قضية الاعتراف بتاريخ 17 أكتوبر من طرف السلطة، كيف جاء هذا الاعتراف؟
هذا الموضوع يعتبر إشكالا في حد ذاته لأنه مرتبط بالسياسة والحديث عنها قد يضعك في صف المعارضة ويجب القول صراحة إن الاعتراف جاء بعد مجيئ الرئيس محمد بوضياف في 1992 وظهر في الجريدة الرسمية في جوان 1993 لكن المبادرة كانت من الراحل محمد بوضياف.
لكن الجزائر كانت تحيي الذكرى منذ مدة طويلة…
نعم لكن الذكرى كانت تمر مرور الكرام دون تعليق ودون مراسيم حيث أن وزارة المجاهدين لم تكن تهتم ب17 أكتوبر 1961 بل إن الفرنسيين مهتمون بالمسألة أكثر منا بالرغم من أنهم هم من ارتكب الجريمة لكنهم يتحدثون عنها أكثر منا، في فرنسا يوجد 30 كتابا يتناول أحداث 17 أكتوبر 1961 أما في الجزائر فيوجد كتابان فقط أحدهما أنا صاحبه بحكم كوني فاعلا في الأحداث وثانيها لعلي هارون الذي قدم لوحة شاملة عن فيدرالية فرنسا دون الحديث عن الأحداث نفسها فهو تحدث عن الولاية السابعة، لم يخصص للأحدث إلا فصلا من بين فصول كثيرة يحتويها الكتاب. الأحداث صدم الفرنسيين من منطلق أنها وقعت في باريس عاصمة حقوق الإنسان.
لماذا تأخرت السلطة في الجزائر في الاعتراف بالأحداث؟
لا أريد أن أدخل في جدل سياسي. أقول فقط إن السلطة لم تكن تزعجها الأحداث ذاتها إنما فيدرالية فرنسا التي تعرضت للحل في سبتمبر 1962 أي بعد الاستقلال مباشرة لأنه كانت تدعم الحكومة المؤقتة وبعد أزمة صيف 1962 أخذت الفيدرالية موقف الحياد ولم ترد إقحام نفسها في النزاع حول السلطة. لكن من المؤسف أن الذين قاموا بالجريمة أطلقوا اسم 17 أكتوبر على شوارع وساحات منذ 2001.
وفي الجزائر هل أطلقت تسميات متعلقة بالأحداث على مرافق أو شوارع أو ساحات؟
باستثناء ضحية واحدة للأحداث اسمها فاطمة بدار وهي فتاة تدرس في الثانوية وهي الوحيدة التي رمي بها في نهر السين حيث قامت السلطات الفرنسية في 2006 بإطلاق اسمها على حديقة بسان دوني وهي البلدية التي كانت تقطن فيها وتدرس في ثانويتها في الجزائر صارعت مع الرفقاء من أجل نقل رفاتها إلى تيشي ببجاية مسقط رأسها. بصعوبة تمكننا من إنجاز ذلك لأن القنصل العام تذرع بعدم وجود ميزانية كافية لنقل رفاة كل شهداء الأحداث. فتم نقلها بإمكانياتنا الخاصة وتم دفنها بمربع الشهداء في بجاية في 17 أكتوبر 2006. وبدأت معركة أخرى من أجل إطلاق اسمها على أحد الفضاءات ولم يتم ذلك إلا العام الماضي. ليس لي اطلاع دقيق على البلديات التي أطلقت اسم 17 أكتوبر على فضاءات عمومية إلا بلدية عين بنيان. ولابد من التنويه أيضا أن وزيرة التربية الوطنية السيدة بن غبريط أدرجت سؤالا في مادة التاريخ في باكلوريا 2016 يتعلق بأحداث 17 أكتوبر.
لابد من الإشارة كذلك إلى أن فرنسا اعترفت بالأحداث عن طريق الرئيس فرانسوا هولاند
هولاند اضطر للاعتراف بالأحداث بضغط من الجمعيات وهو ما فعله في 2012 حيث تم الاعتراف بضحايا القمع الدموي لمظاهرات 17 أكتوبر 1961 وهو الاعتراف الذي صادق عليه السينا. البلديات التي كان يسيرها الاشتراكيون والشيوعيون أطلقوا تسميات قبل اعتراف هولاند حوالي 10 بلديات أطلقت التسمية على ساحات وشوارع في نانتير مثلا تم إطلاق التسمية على شارع ونانتير تحمل رمزية بالنسبة للتيار الاستقلالي حيث كان مقر نجم شمال إفريقيا في هذه البلدية.
لنعد الآن إلى بدايات نضال المهاجرين الجزائريين في فرنسا كيف تطور فكرة مقاومة الاستعمار الفرنسي في عقر داره؟
تعود بطبيعة الحال إلى ما قبل ثورة أول نوفمبر 1954، في 1952 مثلا كانت هناك مظاهرة في مون ميليار مقر شركة بيجو في ذلك الوقت بمناسبة الاحتفال بعيد العمال للمطالبة باستقلال الجزائر وقد أسفر عن مقتل 3 جزائريين على يد الشرطة. كانت حركة انتصار الحريات الديمقراطية في فرنسا يقودها محمد بوضياف وديدوش مراد من 1952 إلى بداية 1954 في سرية بعد فرارهما من ملاحقة الشرطة بعد اكتشاف المنظمة الخاصة عام 1950. في 14 جويلية 1953 أرسلا 200 مناضلا للسير في ساحة الأمة بباريس بلباس أنيق حاملين العلم الجزائري وصورة مصالي الحج للمطالبة باستقلال الجزائر وعند مقاومتهم محاولات نزع العلم منهم تلقوا طلقات الرصاص قتلوا على إثرها 6 مناضلين وجرح 80 منهم وهناك فرنسي ينتمي للنقابة كان من بين القتلى هؤلاء تكفل الحزب بمراسيم جنازتهم والصلاة عليهم ونقلهم إلى المناطق التي ولدوا فيها لدفنهم وبالصدفة فإن المناضلين ينتمون إلى كل ربوع الوطن وهذا كان له تأثير على إذكاء الوعي في أوساط الجزائريين وسهل الأمر على القيادات الحزبية التي كانت بصدد التحضير للثورة المسلحة. ومن جانب آخر كتب الفرنسيون عن الموضوع وهناك شريط وثائقي حول الأحداث.
الملاحظ أن الفيدرالية لم تكن حاضرة عند تفجير الثورة بالرغم من وجود مناضلين وطنيين ملتزمين وواعين، لكنها التحقت في ما بعد، ما هي الطريقة التي التحقت بها؟
كما ذكرت لك، بوضياف وديدوش كانوا في فرنسا والتحقا بالجزائر لتفجير الثورة وقبل ذلك أنشآ مع رفقائهم في الجزائر اللجنة الثورية للوحدة والعمل في مارس 1954 والمناضلون الذي كانوا ينشطون في فرنسا لم يكونوا على علم بإنشاء هذا التنظيم الجديد (جبهة التحرير الوطني) بل ظلوا ينشطون وفق التنظيم الجديد وهو حركة انتصار الحريات الديمقراطية تحت زعامة مصالي الحاج. بعد اندلاع بشهرين فقط أي في جانفي 1955 التحق بوضياف بسويسرا والتقى مراد تربوش وهو من إطارات الحزب البارزة ومن هنا صار توجيه العمل ضمن التنظيم الجديد وبدأ تحسيس المناضلين بالثورة وساهمت في ذلك عائلاتهم من الجزائر عن طريق الرسائل التي كانت ترسل لهم لتنبيههم بأن رافع لواء الثورة التحريرية إنما هو جبهة التحرير الوطني وتحذيرهم من الانسياق وراء الحركة الوطنية الجزائرية التي أسسها مصالي في ديسمبر 1954.
الصراع إذن كان على أشده في بداية الثورة مع الحركة المصالية التي انتشرت في فرنسا…
مصالي لم ينشئ حركته لمحاربة فرنسا إنما لمحاربة جبهة التحرير الوطني. أنا شخصيا عانيت من أتباعه في فرنسا وأصبت بجروح في مناوشات معهم بين 1955 و 1957 بل قتلوا لنا أحسن المناضلين منهم مناضلين كانوا يشتغلون معي في حي كليشي. كنا نعرف بعضنا تمام المعرفة وهناك أحياء خاصة بهم وأحياء خاصة بمناضلي جبهة التحرير الوطني وليس هناك أي تقارب بيننا إلى غاية القضاء عليهم حيث كنا نستهدف قادتهم حتى قضينا عليهم تماما نهاية 1957 ومن قبل كانت الشرطة الفرنسية تحميهم لكن بعد ذلك اضطرت لنقلهم إلى الشمال بعد احتجاج سكان باريس على الدعم الذي كانوا يتلقونه من السلطات الفرنسية في حرب تخص العرب بينهم ولا تعني الفرنسيين.
كيف كان تأثير قرارات الصومام على سير الكفاح في فرنسا وأوروبا؟
المجتمعون في مؤتمر الصومام أرسلوا بيانا للجنة الفيدرالية بفرنسا بتاريخ 20 أوت 1956 ووقعه القادة المجتمعون كلهم يوجه تعليمات صارمة بالقضاء على عناصر الحركة الوطنية الجزائرية وأرضية الصومام حددت ثلاثة أهداف لفيدرالية فرنسا وهي هيكلة كل المهاجرين في أوروبا وليس في فرنسا وحدها والمساهمة في تمويل الثورة وتحسيس الرأي العام الدولي واستغلال الإمكانيات التي تتيحها الهجرة وكون باريس العاصمة مرآة العالم. وهذه الأهداف جسدناها حرفيا. خاصة وأننا شاركنا في إضراب الأيام الثمانية في جانفي 1957 وبعد الإضراب التحق الجميع بجبهة التحرير الوطني بما فيهم المصاليين. لكن الاعتقالات التي تعرض لها أعضاء اللجنة الفيدرالية جعلت عبان رمضان يرسل عمر بوداود إلى فرنسا في 10 جوان 1957 لقيادة فيدرالية فرنسا وإعادة تنظيم المناضلين والتحضير للوقت المناسب لنقل الحرب إلى تراب العدو وتمت إعادة تنظيم الفيدرالية وأنشئ الفرع العسكري بقيادة رابح بوعزيز وهي بمثابة المنظمة الخاصة هناك بفرنسا وبقينا نعمل بتوجيهات عبان رمضان حتى بعد موته في ديسمبر 1957 وفي 1958 أرسلنا فرقة من الفدائيين إلى المغرب من أجل التكوين شبه العسكري وبعد عودة الفرقة انطلق الجبهة المسلحة الثانية في فرنسا في 25 أوت 1958 على الساعة الصفر وهي بمثابة أول نوفمبر ثاني.
كان انطلاق العمليات الفدائية بمثابة المنعرج الأخير إذن…
هذا التحول جاء بعد صعود الجنرال ديغول إلى الحكم في ماي 1958 وتصريحه بالجزائر الفرنسية من دينكرك إلى تمنراست حيث صرح عباس فرحات من القاهرة في شهر جوان باسم لجنة التنسيق والتنفيذ أن جبهة التحرير الوطني قررت نقل الحرب إلى تراب العدو لتحرير الجزائر فأعددنا العدة لذلك وهيأنا خطة العمل بتواطؤ من بعض الفرنسيين أنفسهم منهم أفراد الشرطة. وكانت الأهداف الأولى معامل تكرير البنزين وامتدت العمليات إلى كل التراب الفرنسي ولم تتوقف فقط في باريس. وهو ما أخلط الأوراق على ديغول وحاول بكل الوسائل الحد من الحركة لكنه فشل وأتى حتى ب500 فرد من الحركة من الجزائر للاختراق لكنه فشل واضطر ديغول لتغيير لهجته وأصبح يتحدث عن تقرير المصير عام 1959 لكن العمليات الفدائية تواصلت إلى غاية 1961 أين تقررت إقامة مظاهرة سلمية تحديا لحظر التجول بأمر من الحكومة المؤقتة لكن السلطات الأمنية الفرنسية قررت مواجهتها بالقمع الدموي وكانت حصيلتها قتلى وجرحى وضحايا تم إلقاؤهم في نهر السين.
وما هو التأثير السياسي الذي أحدثته المظاهرات وقمعها على مسار الثورة؟
لما رأى ديغول أن النار بدأت تلتهم بيته اتصل السويسريين وطلب الاتصال بقيادة جبهة التحرير الوطني من أجل الانطلاق في مفاوضات جادة فكان أول لقاء في سويسرا بين الوفد الجزائري الذي مثله رضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى والوفد الفرنسي في 28 أكتوبر 1961 أي بعد 10 أيام من الأحداث حيث أبلغ الوفد الفرنسي الوفد الجزائري أن ديغول قلق جدا من تداعيات أحداث 17 أكتوبر وأنه مستعد للتفاوض حول تقرير مصير الشعب الجزائر دون فصل الصحراء كما كان عليه الطرح من قبل وأعقبته لقاءات أخرى في نوفمبر بوساطة سويسرية للقيام بمفاوضات مباشرة.
حاوره احسن خلاص