في هذا الحوار يقر كاتب الدولة السابق للإحصاء والاستشراف الخبير بشير مصيطفى أن لجوء الحكومة إلى التسيير الكمي أو التمويل غير التقليدي لسد عجز الموازنة، بالرغم من أنه سيحرك عجلة النمو، إلا أنه سيضع الجزائر في مفترق الطرق إذ أن نجاحه مرهون بوضع سياسة مالية متوسطة المدى مرافقة للخروج من النفق. كما أعطى وصفة لتقييد الواردات ورسم خارطة تمهيدية لتطبيق الضريبة على الثروة التي تنوي الحكومة إدخالها ابتداء من السنة المقبلة.
بشرتم في عدة تدخلات بأن 2018 ستكون سنة انفراج وعودة النمو والوزير الأول السابق أرسل خطابات مطمئنة في هذا الاتجاه بينما جاء خطاب الوزير الأول السيد احمد أويحيى خلال عرض مخطط الحكومة على البرلمان حاملا نبرة تشاؤمية ومنذرة بالجحيم. ما الذي جعل الأمور تنقلب بين عشية وضحاها؟
لا زلت عند توقعاتي ، والدليل على ذلك موافقة السلطات والبرلمان على دخول التمويل غير التقليدي ( التيسير الكمي) حيز التنفيذ مع سنة 2018 من خلال تعديل قانون النقد والقرض بعد وصول التمويل التقليدي الى حدوده ، الى جانب اعتماد التمويل الاسلامي من خلال 06 بنوك عمومية وإدخال الضريبة على الثروة الى منظومة الجباية . أدوات ستسمح بتجاوز أزمة الموازنة وأزمة شح السيولة لدى البنوك التجارية وتطهير شركات الطاقة وصندوقي الضمان الاجتماعي والتقاعد مع إعادة تمويل المشاريع المتوقفة في مجال النقل وتكرير المحروقات والطاقات المتجددة واستكشاف الغاز الصخري والمحروقات مما سيدفع النمو إلى أعلى مع مخاطر أكيدة ناجمة عن طبيعة التمويل غير التقليدي منها ارتفاع التضخم وهلع دافعي الضرائب والعائلات بما يزيد من توسع السوق الموازية.
ولذا، على الحكومة التواصل الواسع مع المستهلكين والمستثمرين على أساس ضمان النمو والإنتاج وزيادة الناتج الداخلي الخام والحماية الاجتماعية ومرافقة الحلول المذكورة بسياسات مضبوطة في مجال التحويلات الاجتماعية وترشيد الانفاق العام .
وعلى العائلات والمتعاملين الاقتصاديين الاستعداد النفسي والسلوكي للآثار الناجمة عن تلك الاجراءات ولاسيما في مجال الأسعار .
وعلى شركات القطاع العام والإدارة الاقتصادية والبنوك التحلي باليقظة المالية والاقتصادية لمواكبة سياسات التمويل الجديدة أي سياسات (التيسير الكمي).
دافع الوزير الأول عن حل التمويل غير التقليدي واستبعد إمكانية تجسيد الحلول الأخرى مثل امتصاص السوق المالية الموازية وتفعيل سياسة جبائية أو إصدار عملة جديدة أو حتى استرجاع القروض البنكية. هل اللجوء إلى التمويل غير التقليدي فعلا حتمية أم أن ثمة نوافذ أمل أخرى يمكن فتحها؟
على المدى القصير (مدى الإجراءات) لا مفر من (التيسير الكمي) لتوفير السيولة ولكن الآثار ستكون جد محتملة، ويجب التخفيف منها باتباع إجراءات مرافقة للمديين المتوسط والبعيد مثل: ضبط ميزانية الدولة من جديد لصالح خفض الإنفاق ورفع الإيراد، تطهير السياسة النقدية للدولة بالتوجه نحو التمويل عن طريق سوق رؤوس الأموال وسوق الأوراق المالية، إطلاق منتجات جبائية جديدة مثل الثروة ومنتجات مالية جديدة مثل الصكوك الإسلامية، امتصاص فائض السيولة في السوق الموازية عن طريق العملة الوطنية الجديدة، تطوير تمويل مشروعات الدولة بإدخال أساليب الشراكة مع القطاع الخاص ولو في المخططات البلدية للتنمية، استقطاب ادخار العائلات والشركات والجالية بإشراك رؤوس أموالها في مشروعات الدولة ذات العائد العالي مثل الطرق والموانئ والنقل والبنى القاعدية والسدود والمطارات والتجارة الخارجية والاستثمارات المبنية على العقود الاسلامية وخاصة ما تعلق بالزراعة والري والصناعة وأسواق الأوراق المالية.
هل لمستم كخبير متابع أثرا إيجابيا بعد أكثر من سنة من تطبيق نظام رخص الاستيراد؟
جدوى رخص الاستيراد لم يظهر على وضعية الميزان التجاري إلا بنسبة محدودة بحيث لم يتجاوز تراجع فاتورة الواردات عتبة الـ 800 مليون دولار خلال سنة أي عند نهاية شهر أوت 2017 وذلك على حساب ندرة ملحوظة في عديد السلع ومنها السيارات والحديد، ولولا الانتعاش النسبي لسعر النفط العام 2017 وارتفاع الصادرات لكان وضع الميزان التجاري في قمة العجز أي أكثر بكثير من سقف 7 مليار دولار نهاية أوت مما يؤكد استمرار هشاشة التجارة الخارجية وشدة ارتباطها بسوق النفط ويدفع الى التفكير في بديل عن تقييد الواردات بمضاعفة الانتاج الوطني خارج المحروقات وتحرير التصدير وبواسطة شركات مختصة في خدمات التجارة الخارجية .
وفي هذا الصدد أقترح تخصيص جزء من السوق الوطنية للجالية الجزائرية بالخارج للاستثمار في التصدير للجزائر بمساهمة مائة بالمائة الشيء الذي يوفر على البلاد النقد الأجنبي ويسمح بتقاسم المخاطر خاصة في المواد عالية الطلب مثل السيارات والدواء والمنتجات نصف المصنعة والحديد وقطع الغيار مع تحفيزات جمركية غير محدودة .
تدعون منذ سنوات إلى اعتماد نظام اليقظة في جميع القطاعات وتوقعتم الانسداد في أي لحظة إذا ما تمادت الجزائر في السياسة الاقتصادية المنتهجة. إلى أي مدى يمكن أن تساهم المناهج التي تقترحونها في إيجاد الحلول الدائمة أو الوقاية من أزمات جديدة؟
اليقظة المالية والاقتصادية جد مهمة وفعالة وضرورية في رسم السياسات للمدى البعيد وهي كذلك في تجنب الأزمات التي تتفاعل معها الحكومات عادة بإجراءات المدى القصير كما هو الحال في الجزائر . وعلى سبيل المثال الحلول التي تظهر نتائجها بعد خمس سنوات كان يمكن البدء فيها قبل خمس سنوات أي قبل الاعلان عن عجز الخزينة بخمس سنوات ما يساعد عن تجنب هذا المشهد السلبي. ونفس الشيء بالنسبة للضريبة على الثروة فقد نادى بها خبراء الاقتصاد منذ سنوات والصكوك الاسلامية منذ عشرات السنوات وميثاق الشراكة بين القطاعين العام والخاص منذ 10 سنوات كل ذلك عندما كانت أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل، وهذا هو محتوى اليقظة في رسم السياسات .
يعد الوزير الأول بعودة الأمور إلى طبيعتها في غضون سنتين دون أن يعطي ضمانات دقيقة. من موقعكم كخبير اقتصادي ما هي حظوظ نجاح خطة أويحيى وماهي شروط هذا النجاح؟ وبالمقابل ما هي المخاطر والآثار الجانبية للخطة؟
الاستشراف يبنى على المشاهد المحتملة، وكل المشاهد محتملة: المشهد المفضل أي النجاح ، والمشهد المتشائم أي الفشل، والإجراءات المقترحة والمذكورة لحد الساعة تحمل فرص نجاحها في سد عجز الميزانية ومن ثمة الخزينة مع تبعات محتملة بدأت في الظهور . ولتجنب ذلك وضمان المشهد المتفائل يقتضي الأمر ما يلي :
مرافقة تلك الإجراءات بسياسات متوسطة المدى بتطبيق الشراكة الاستراتيجية مع رأس المال الخاص – تطهير السياسة النقدية بإجراءات أكثر جدوى في سحب السيولة للقطاع الرسمي ومنها إصدار عملة وطنية جديدة – تطوير منظومة الجباية بإطلاق منتجات جبائية جديدة ( توسيع الوعاء الجبائي وتقليص العبئ الجبائي المؤدي الى أثر لافير أي التهرب الجبائي ) وهو موضوع الابتكار الجبائي الذي تقوم به وزارة مختصة هي ( الوزارة المنتدبة للجباية ) أرى من الضروري استحداثها – إعادة النظر في مواد ميزانية الدولة بالتحرر من النمط التقليدي المبني على التدخل الواسع للحكومة الى نمط اليقظة المبني على اشراك الطبقة الاقتصادية في تمويل الاقتصاد بناء على توزيع العوائد والمخاطر معا وهنا أقترح توجيه التحويلات الاجتماعية لمستحقيها بما يوفر للحكومة حوالي 8 مليار دولار من أصل 16 مليار دولار في ميزانية 2017 وهذا الرقم الذي ممكن توفيره يساوي 75 بالمائة من عجز ميزانية السنة الجارية ويزيد عن حاجة الخزينة بـ 3 مليار دولار .
هل يمكن القول إننا نجونا من خطر الاستدانة الخارجية وما رأيكم فيمن يقول إن الجزائر لن تجد من يقرضها بالنظر لعدم امتلاكها ضمانات السداد وبالنظر إلى حجم حاجياتها؟
اقترضت الجزائر مؤخرا ( 2016 ) من البنك الافريقي للتنمية مبلغ 900 مليون أورو قريبا من مليار دولار دون مشكلة ، ولكن التوجه العام للحكومة هو تجنب الاقتراض من السوق المالية الدولية وهو توجه مناسب لإمكانيات التمويل من السوق الداخلية وخاصة مع توسع القطاع الخاص وتضاعف الثروة والسوق الموازية ( 24 ألف ملياردير جديد يجر ثروة كبيرة ) مع ضعف التحصيل الجبائي الذي لا يتجاوز عتبة الـ 20 بالمائة بسبب أثر ( لافير )، وإدماج الصيرفة الاسلامية وفتح فرص الاستثمار والتعاملات التجارية مع الجالية الجزائرية بالخارج وحجمها 7 مليون نسمة .
وفي مجال التمويل الداخلي أقترح :
إطلاق ميثاق الشراكة الاستراتيجية بين القطاعين العام والخاص – فتح باب الشراكة مع القطاع الخاص في مشاريع التنمية المحلية – إطلاق وزارة منتدبة للجباية لتطبيق الابتكار الجبائي وتحسين التحصيل من 20 بالمائة على أقصى تقدير الى 50 بالمائة في المدى القريب – إطلاق بنوك الجالية لحفز الادخار الجزائري الذي هو موطن في البنوك الأجنبية – توسيع العمل بالتمويل التشاركي والصكوك الاسلامية تمهيدا لنشوء سوق رأس المال التشاركي أسوة بسوق رأس المال التقليدي في حقلي المصارف والتأمينات معا .
ما تعليقك عن فرض ضريبة على الثروة؟
أولا ، نحتاج الى نص قانوني يعرف الثروة في محتوى الضريبة على الثروة ، وأقترح تعديل قانون الضرائب والرسوم المماثلة لهذا الغرض ولأغراض أخرى . وفي رأيي ستتضمن الثروة الخاضعة للضريبة الجديدة في قانون مالية 2018 المواد الممكن تعريفها وإحصاؤها وهي :
مخزون الذهب لدى وكالات رهن المواد النفيسة – العقارات أي الأصول غير المنقولة على مستوى الولايات ( أراضي وبنايات ) – العقارات المملوكة للمواطنين على مستوى الخارج ( إسبانيا مثلا ) – الحسابات البنكية والبريدية – أرقام أعمال التجارة – أرباح الشركات التابعة للأفراد – الأسهم – السندات ( حقوق تملك الأفراد في سندات الخزينة مثلا ) . ويمكن الوصول إلى معلومات هذه المواد عن طريق : مركز السجل التجاري – وكالة أندي – المجلس الوطني للاستثمار – مصالح مسح الأراضي – دواوين الترقية العقارية – مصالح أملاك الدولة – الجمارك – المصالح الدبلوماسية في الخارج.
أما الثروات الموجودة في السوق غير الرسمي فيستحيل معرفتها إلا في حالة واحدة وهي إصدار العملة الوطنية الجديدة (الدينار الجديد) أو عن طريق الامتثال الطوعي لأصحابها (التصريح ) مقابل تحفيزات محددة تمنحها الحكومة مثل الاعفاء الجبائي.
خاصة وأن الجزائر تعتبر من أقل الدول في العالم من حيث نسب الضريبة والرسوم، ولكن من أكثر دول العالم من حيث ( العبئ الجبائي) الذي هو نسبة الضريبة إلى الدخل، وهذا ما يفسر بنا التهرب الضريبي مما شجع على توسع الأرباح الخالية من الضريبة .
وإذا أضفنا الى ذلك المزايا الجبائية للشركات الوطنية والخاصة والأجنبية في إطار قانون الاستثمار سنكتشف ثروة هائلة نشأت خلال الـ 20 سنة الأخيرة يصعب حسابها ولكنها أنشأت لنا طبقة برجوازية صغيرة لا تقل عن 24 ألف ملياردير.
التهرب الضريبي الى جانب العائد على أرباح المعاملات التجارية خارج الفوترة والقانون التجاري هو الذي شجع السوق الموازية التي يتراوح حجمها بين الرقم الرسمي الذي هو 27 مليار دولار والرقم غير الرسمي المقدر بـ 45 مليار دولار أي 30 بالمائة من الكتلة النقدية في السوق . إحصاء السوق الموازية حاليا مستحيل ولكن حجم الاستثمارات والأرباح المعفية من الضرائب ممكن لدى المصالح المختصة.
حاوره احسن خلاص