ماذا بقي لأكتوبر 1988 من ذكر على ألسنة السياسيين والمثقفين اليوم وقد مرت عليه 30 سنة؟ هل تحول إلى مجرد ذكرى طفيفة لحدث محلي يهم سكان بعض الأحياء بالعاصمة مثل باب الواد والقبة والحراش وبلكور فقط؟
تساؤلات وأخرى تقفز إلى الأذهان ونحن نستحضر ذكرى انتفاضة شعبية كانت بمثابة الشعلة التي أدت إلى حريق مهول في بيت نظام الحزب الواحد ومنظومته الاقتصادية “الاشتراكية” وحكمه المركزي الشمولي مؤذنا ببداية عهد جديد، عهد التعددية السياسية والإعلامية والحريات واقتصاد السوق والانتخابات، وبالمقابل عهد المأساة والانزلاقات الأمنية.
لم يعد لأكتوبر ذكر على ألسن أفراد السياسة وجماعاتها ومؤسساتها اليوم مع أن وجود هؤلاء كلهم إنما كان بفضله وبما حمله معه ومع ذلك لا يمكن أن تمر هذه الذكرى دون الوقوف عندها.
قد لا يتسع المقام لاجترار القراءات المتعددة والمختلفة حول أسباب وخلفيات الأحداث ومحركيها والمستفيدين والمتضررين منها فقد أفاض فيها المحللون وأدلى الفاعلون فيها بدلوهم. إذ أن الأهم اليوم هو ذلك التساؤل الذي تتعزز أهميته سنة بعد سنة وكلما ابتعد الجزائريون بالذكرى. ما الذي تحقق من “المكاسب الديمقراطية” بعد ثلاثة عقود وما الذي بقي عالقا ينتظر التحقيق؟
لم تدم أحداث أكتوبر 1988 إلا أياما معدودات إذ سرعان ما أطلق خطاب الرئيس الشاذلي بن جديد في 10 أكتوبر إشارة جديدة تؤذن بإصلاحات سياسية قال إنها كانت في مفكرته ولم يبق للانطلاق فيها إلا تلك الإشارة التي أطلقتها الأحداث التي عصفت ببعض رموز الحزب الواحد وعلى رأسهم محمد الشريف مساعدية وأطاحت بالحكومة على كان على رأسها عبد الحميد الإبراهيمي وأدت إلى تعديل عميق في دستور 1976 اعتُرف من خلاله بالتعددية السياسية والإعلامية وخرجت من وراء الستار تيارات سياسية كانت تعمل في السرية وأخرى رأت النور لأول مرة كما ازدان فراش التعددية بعناوين إعلامية خاصة قضت على احتكار الصحف العمومية للمجال الإعلامي. كما أعدت “حكومة الإصلاحات” التي قادها مولود حمروش ترسانة من القوانين الجديدة لمواكبة عهد سياسي تعددي واقتصادي قائم على العرض والطلب أو ما يسمى اقتصاد السوق وبدا الأمر وكأن الجزائر كانت في سباق مع الزمن في تحول سريع وعميق بغية إزالة ركام عهد دام ما يقرب من 30 سنة وفتح الباب لعهد جديد في تحول داخلي هام للنظام القائم منذ الاستقلال، نظام آثر الانفتاح على ما أسماه آنذاك الحساسيات السياسية التي كانت قائمة حتى داخل حزب جبهة التحرير الوطني الذي عادت عليه الأحداث هو الآخر بالفائدة بعد أن عرف كيف يستنفر قياداته القديمة من بينها الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة في ندوة وطنية أعادت تشكيل اللجنة المركزية كهيئة سياسية بعدما انسحب منها ضباط الجيش في ظل التوجه الجديد إلى فصل الجيش عن الحياة السياسية. وهي الحياة السياسية التي نشطتها تيارات أخذ كل واحد منها قطعة من الهوية الوطنية واحتكرها لنفسه في نظرة شمولية إقصائية للتيارات الأخرى فلا التيار الإسلامي كان يقبل بالعلماني والبربري ولا هذا الأخير كان يقبل بالعروبي والإسلامي غير أن الجميع اتفق أن النظام القائم المبني على الجيش وقوات الأمن من جهة والإدارة من جهة أخرى كركيزتين أغلق اللعبة السياسية وضيق من هامش المناورة السياسية ودفع إلى اللجوء إلى العنف في النهاية مثل ما حدث مع التيار الإسلامي الراديكالي فكانت النتيجة أن ذاق الجزائريون ويلات ما يقارب من عقدين من العنف الإرهابي.
الرهانات الجديدة
ليس من اليسير الإحاطة بثلاثين سنة تفصلنا عن أكتوبر 1988 وهي ثلاثة عقود مليئة بالتقلبات والأحداث ومعبأة بالمخرجات السياسية والتحولات الأمنية والاقتصادية لكن من الأجدر الوقوف عند الرهانات الجديدة التي تفرضها المرحلة التي أفرزتها هذه العقود من الزمن بتناقضاتها. فقد مرت التقلبات التي عرفتها المنطقة العربية على الجزائر بسلام وأكتسب من هذه العقود الثلاثة تجربة ثرية مكنتها من الحفاظ على استقرار نسبي دون أن تتمكن بالضرورة من إيجاد توافق على لعبة ديمقراطية ترضي كل الأطراف السياسية على الساحة. فلا يزال النظام القائم متهما بغلق المجال الديمقراطي وعدم إتاحة الفرصة للتداول وعدم التمكين لتعددية سياسية حقيقية تعكس التعددية الفكرية والثقافية الموجودة في المجتمع كما لا يزال النظام متهما بالعجز عن مكافحة الفساد حتى أن هناك من يرى أن النظام كما هو مولد للفساد وراعي له ومن جانب آخر لا يزال الاستقرار المحقق هشا ومهددا من الداخل والخارج بظهور التيارات الانفصالية وتغذية النعرات الجهوية والعرقية إضافة إلى حالة الانسداد التي تهدد الاقتصاد الوطني الذي لا يزال قائما على عائدات ريع المحروقات رغم ما قدمته البحبوحة من فرص للتنمية الاقتصادية والمجهود الذي بذلته الدولة في مجال الاستثمارات العمومية التي شملت المنشآت القاعدية بالدرجة الأولى. لقد استهلكت الجزائر منذ أكتوبر 1988 ما يقارب ألف وزير وأكثر من 20 حكومة و5 رؤساء دولة ومئات الإطارات وشاركت في الحياة السياسية كل التيارات دون أن يحدث هذا الزخم كله التأثير المطلوب والهدف المنشود وهو جعل الجزائر من البلدان الناشئة اقتصاديا والراقية سياسيا. أما الطبقة السياسية المنشطة للساحة فقد شهدت تدحرجا في مستوى الطرح السياسي والفكري وانساقت وراء خطاب تهريجي وما أزمة البرلمان الفارغة من أي محتوى سياسي إلا دليل على ما آل إليها المشهد السياسي بعد ثلاثة عقود على انتفاضة أكتوبر.
احسن خلاص