تسعى الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية بشكل دؤوب منذ تأسيسها إلى تغيير المفاهيم التقليدية السائدة حول التفكير الفلسفي المتقوقع في زاوية أو برج من عاج لتخرجه إلى الناس. وقد نجحت نسبيا في ذلك من خلال عملية اتصالية نشطة تضمنت ندوات وتدخلات عبر وسائل الإعلام وتفاعل عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وها هي تعقد مؤتمرها السنوي السادس نهاية هذا الشهر وقد اختارت له موضوعا هاما ملتصقا بأهم الإشكالات التي تشغل بال النخبة من مثقفين وسياسيين ورجال دين، وهي إشكالات الحوار والتعايش والاختلاف والتنوع وقد لخصتها في عنوان جامع سمته ثقافة العيش المشترك. حول هذه مناسبة هذا اللقاء الذي سيجمع نخبة من المفكرين الجزائريين والعرب، وسيكرم فيه الفقيد المرحوم أستاذ أساتذة الفلسفة الربيع ميمون، حاورت رئيس الجمعية الأستاذ الدكتور بجامعة الجزائر عمر بوساحة الذي أدلى لـ”الجزائر” بهذه التفاصيل.
تنظم الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية يومي 25 و 26 أفريل مؤتمرها السنوي السادس واختارت له موضوعا مثيرا للاهتمام وملتصقا بانشغالات حادة تعرفها منطقتنا. كيف فكرتم في هذا الموضوع وما هو الدافع إلى طرح فكرة العيش المشترك بالذات؟
كما تفضلت أستاذ حسن فقد اختار أعضاء الجمعية موضوع ثقافة العيش المشترك للتداول في مؤتمرهم بوصفه إشكالا عويصا يؤرق منطقتنا بعامة وبلدنا الجزائر بالخصوص. فالتعدد والاختلاف في الثقافة والإيديولوجيات سيصبح أمرا مدمرا إذا نحن لم نحسن تسييره والسيطرة عليه ثقافيا وسياسيا، فالجزائريون الذين عاشوا عقودا من الزمن ضمن ثقافة أبوية ونظام سياسي وثقافي أحادي استفاقوا بعد إحلال التعددية السياسية على تنوعهم السياسي والثقافي، ولأنهم لم يكونوا معتادين على مكاشفة بعضهم بذلك، دخلوا في مشاحنات وصراعات أدت إلى احتقان عنيف في العلاقات فيما بينهم مما أصبح ينذر بانزلاقات خطيرة، لاحظنا البعض منها في الأشهر الأخيرة الماضية في قضية ترقية اللغة الأمازيغية . لهذا السبب جاءت ضرورة فتح نقاش واسع حول سبل الاعتراف وتسيير هذا التنوع والاختلاف ووضع مبادئ وسبل لجعله يخدم الصالح المجتمعي عوض شرذمته وتشتيته. فالتعدد والاختلاف أمر طبيعي في البشر والمشكلة التي تطرح أمام المجتمعات ونخبها تكمن في البحث عن سبل الاستفادة من هذا التعدد وجعله يخدم الصالح العام عوض تحييده وقمعه.
من خلال الاطلاع على برنامج المؤتمر ومختلف المداخلات المبرمجة نجد أن فكرة العيش المشترك مطروحة كنقطة مركزية تحوم حولها جملة من المفاهيم من أخلاق الكرامة وثقافة الاعتراف والهوية الإنسانية والعولمة والموسيقى والدين والمنظور الجمالي والمدنية والتسامح وغيرها من المفاهيم مما يدل على أن الإشكال المطروح عميق ويستدعي زوايا نظر متعددة من الصعب بعدها الخروج بخلاصة مفهومية منسجمة للعيش المشترك؟
أعتقد أن مفهوم ثقافة العيش المشترك مفهوم مركب يقتضي فحصه أو النقاش حوله النظر إليه من زوايا مختلفة. لذلك تعددت عناوين المداخلات وتنوعت. ففي المؤتمر نجد الفيلسوف والأديب والفنان وأستاذ الفكر السياسي والمترجم ورجل الدين، إلى آخره من مشارب المعرفة المتعددة. فالنجاح في المراهنة على الدور الإيجابي للثقافة في المجتمع يقتضي تضافر جهود المثقفين على تنوعهم للإحاطة بجوانب الموضوع المتعددة. فليس من المجدي لتفكيك إشكالية العيش المشترك وجعل الثقافة التي تؤسسه فاعلة اجتماعيا أن نكتفي بزاوية نظر واحدة في مقاربة موضوعه. فنحن أمام تحد يقتضي تضافر جهود جميع النخب طالما نحن بصدد الحديث عن ثقافة للعيش المشترك تسمح للجميع بالتعايش النشط والفاعل من دون حروب وصراعات.
الملاحظ أن قائمة المتدخلين المدعوين متنوعة داخل المحيط العربي لكنها، بالرغم من أن المؤتمر طرح إشكالية العيش مع الآخر، لم تنفتح عن ممثلي الضفة الأخرى باستثناء هنري تيسي (المحسوب على الجزائر) أي أنها لا تحتوي على أسماء غربية وأوروبية بالأخص. إذا كان ذلك اختيارا من الجمعية فهل له ما يبرره وإن كان غير ذلك ما الذي حال دون إشراك أطراف من الضفة الشمالية؟
قد يظهر هذا الأمر من خلال النظر السريع للأسماء المشاركة في المؤتمر وملاحظة غياب الأسماء الغربية من قائمتها، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن غياب الأشخاص لم يغيَب أفكارهم وخطاباتهم. نعرف صديقي حسن أننا في الفلسفة نشتغل على الفكر الإنساني بعامة وعليه فإنك ستجد الأسماء الفلسفية الكبيرة حاضرة بأفكارها في جل عناوين المداخلات ومضامينها، بمعنى أننا سنستفيد من أفكار جميع هؤلاء بغرض توطينها في واقعنا الثقافي. فقد سبقتنا دول عديدة بتجاربها في تطويع التعدد الثقافي والسياسي ونحن لكي نربح الوقت مضطرون للإطلاع على هذه التجارب والاستفادة منها دون التماهي معها بطبيعة الحال فلابدَ أن نراعي في ذلك ما ينسجم مع واقعنا وثقافاتنا المختلفة، فقد علمتنا التجارب أن التطبيق الحرفي لتجارب الآخرين لن ينجح في الغالب، طالما أن الشعوب تختلف فيما بينها، وإن كان ما يجمع بينها الشيء الكثير، فنحن شركاء في الإنسانية. ولكي تتعايش هي الأخرى يجب عليها الاعتراف لبعضها بالاختلاف واحترام بعضها البعض وترقية القيم الإنسانية التي تجمعها وهي كثيرة، عوض الصراعات والحروب.
سادت في الجزائر، في المدة الأخيرة خاصة، نقاشات حادة تتعلق بالهوية والتكامل الديني واللغوي. إلى أي مدى يمكن أن تستفيد الجزائر كنخبة مثقفة وسياسية من مخرجات المؤتمر وكيف تعتزم الجمعية إيصال منتوجات المؤتمر إلى أكبر عدد من المستفيدين جزائريا وحتى على مستوى المحيط؟
قد يكون السبب القوي الذي دفع بنا إلى تناول هذا الموضوع الهام هو ما يجري في بلدنا من تجاذبات في الحياة السياسية والدينية وقضايا الهوية. كذلك ــ وقد سبق وأن أشرت إلى ذلك ــ إن هذا التنوع وهذه الاختلافات التي استفقنا عليها وكانت مقموعة بداخلنا هي التي نبَهتنا في الجمعية إلى المخاطر المحدقة ببلدنا أمنيا واجتماعيا إن لم نسارع إلى تدارك الأمور بفتح نقاش معمق بين نخبنا نحاول أن نبين فيه أن التعدد الثقافي والهوياتي لا يمثل خطرا في ذاته ولا يجب اعتباره كذلك، طالما أن التعدد هو من سمات كل المجتمعات في العالم، بل إن أمر تسييره والتحكم فيه إن لم يرشَد هو الذي سيخلق انحرافات ومخاطر. وعليه سارعنا إلى فتح نقاش في موضوع ثقافة العيش المشترك لنشير في بذلك إلى أن الإنسانية جمعاء من طبعها هذا التنوع، وأن ما يفرق بيننا وبين هذه المجتمعات التي تخلصت من صراعاتها الاجتماعية هو أن هذه المجتمعات وجدت طريقها نحو تجاوز هذا الإشكال، وبقينا نحن نراوح مكاننا نتقاتل على أمور سرعان ما ننتبه بعد زوال الغضب أننا لم ننل من خلال كل ذلك سوى إهدار الأرواح والموارد. وهو الأمر الذي ما كان ليكون لو أننا نظرنا لأمورنا بواقعية وحكمة.
الملاحظ كذلك أن هناك إغفالا واضحا لدور البعد السياسي والدولة بالدرجة الأولى في معالجة فكرة العيش المشترك هل كان الأمر مقصودا أن يتم تناول القضية ضمن إشكال حوار الحضارات والثقافات دون إقحام البعد السياسي بالرغم مما له من أهمية في ضبط قواعد العيش المشترك؟
البعد السياسي متضمن في أغلب ما يرد في المداخلات، وذلك بالنظر لأهمية هذا البعد في مقاربة مفهوم ثقافة العيش المشترك، وقد يكون هذا البعد مع الأخلاق أهمها جميعا، فلا يمكن بتصورنا قيام مجتمع متماسك يوجه أعضاؤه جهودهم نحو رقيه وتقدمه من دون وجود دولة تراعي تنوعه والاختلافات فيه . فعلى الدولة في ثقافة العيش المشترك أن تكون دولة مدنية محايدة تتأسس بشكل واضح على مبدأ المواطنة وتحكمها القوانين التي تجعل كل التنوعات المذهبية والدينية والإثنية… متساوية أمام القانون. فالدولة الحديثة التي يعدَ من أهم مهامها النجاح في تسيير الاختلافات وترقية الحياة الديمقراطية وحماية الحريات، لا يمكنها أن تكون سوى دولة مدنية تحترم الأديان جميعا والمذاهب والثقافات، وتقف على مسافة واحدة تجاه الجميع.
على ذكر الدولة المدنية الحديثة تروج النخبة الحاكمة في الجزائر لفكرة الحفاظ على المرجعية الدينية الوطنية مع أن الدستور الجزائري يعترف بحرية المعتقد ويكفل للأطياف الدينية الأخرى وحتى المذاهب المختلفة داخل المرجعية الإسلامية حق الوجود والممارسة. كيف يمكن التوفيق بين هذين التوجهين؟
لا أختلف معك في هذه الفكرة، فنحن نلاحظ بالفعل أن هناك بعض التضارب بين هذه المواد في الدستور الجزائري، وعلى فكرة هذه المسألة لا تخص الجزائر فقط بل إن أغلب الدساتير العربية هي على هذه الشاكلة. فمن جهة تقرَ بأن الإسلام هو دين الدولة، ومن جهة أخرى تفتح الباب واسعا أمام حرية الاعتقاد وتتبنى مبادئ حقوق الإنسان التي من بينها حرية الضمير. وقد لا نضيف إلى الوقع شيئا لو أننا حذفنا هذه المادة من دساتيرنا، وإن كانت الدولة في شكلها الحديث تفصل بشكل كامل بين الديني والدنيوي، فمثلا الدولة العربية التي أسسها حزب البعث في المشرق فصلت بين الدين والسياسة ولكن الممارسة السياسية فيها ظلت ذات طابع ديني تخلط ما بينهما، بينما الدستور التونسي الأخير والذي حافظ على هذه المادة فتح المجال واسعا لحرية الممارسة السياسية والتشريعية المستقلة عن الدين. فالمشكلة بحسب ما نعتقد تكمن في ثقافة المجتمع، فمن المجتمعات العربية من ترقَت ثقافته ونهلت بشكل واسع من فكر الحداثة وقيمها، ومنها من ثقافته لا تزال ثقافة تقليدية محافظة. ففي الجزائر مثلا لا يزال الفكر السلفي يضرب بجذوره بعيدا في الحياة الثقافية وعلى الرغم من الانهزام الذي لحق بالإسلام السياسي عسكريا وسياسيا عندنا، إلا أنه في الحقيقة التفَ على الثقافة وحولها إلى متاريس وكوابح تمنع كل حرية للفكر والإبداع. وعليه فإن السعي لإقناع الناس بأهمية الفصل بين الدين والسياسة على الرغم مما في ذلك من منافع للمجتمع وللممارسة السياسية والدينية ذاتها لا يزال بعيد المنال ومحفوفا بالكثير من المخاطر وردود الفعل الهوجاء. فلا يزال الكثير منا ينظر إلى هذا الأمر أنه خطر على الدين طالما أن هناك من لا يزال يعتقد بأن العلمانية هي إلحاد وكفر.
ألا ترى أن حركية اقتصادية قوية وتكاملية وموحدة مثل ما هو الحال في تجربة الاتحاد الأوروبي كفيلة بالمساعدة على تجاوز التباينات الإثنية والدينية والمذهبية داخل الدين الواحدة وإزالة الفوارق الاجتماعية والجهوية مما ييسر سبل العيش المشترك أم أن المسألة تعالج على المستوى الفكري والعقائدي والسياسي فقط؟
هي في الحقيقة عناصر متكاملة فالاقتصاد يكمَل الحياة الثقافية ويتكامل مع العقائد والسياسة. فعملية التنمية لا تقوم على عنصر بمفرده بل تطال الإنسان وثقافته برمتها. أما الاتحاد الأوروبي فذاك شأن آخر. فالأوروبيون توحدوا بعد أن حضَروا لأنفسهم أرضية ثقافية وسياسية دامت قرونا من الجهد والإبداع. ولكن كلامنا هذا لا يعدم وجود بعض الأمثلة والتجارب الناجحة اعتمدت التنمية أسلوبا في تجاوز الكثير من الإشكالات الإثنية والثقافية. ومن هذه نذكر مثلا بعض دول الخليج العربي وبعض الدول الآسيوية، ولكنها أمثلة قليلة ذات خصوصيات معينة إذا ما قورنت بما هو حاصل في باقي مجتمعات العالم. بل إن هذا الأسلوب لا ينجح إلا عندما يخلق بالتساوق معه ثقافة تعايش بين مكونات المجتمع المختلفة. لذلك فنحن نتصور أن النجاح في إرساء ثقافة للعيش المشترك سيكون أضمن إذا نحن استفدنا من هذه العناصر جميعها، فمحاولات كثيرة فشلت لأنها عالجت الأمور بطريقة جزئية محدودة. فالتنمية الاقتصادية والتثقيف المدني العقلاني، أخلاقي وجمالي، ودولة بمبادئ ومؤسسات حديثة وما يرافقها، وحدها كفيلة بدفعنا نحو هذا الأفق المأمول، أفق العيش المشترك.
حاوره احسن خلاص