أنهيت قراءة عمل، ليس جديرا بالقراءة فحسب، بل كذلك التدبر والتمعّن والتفكير. كتاب عندما تنهيه لن تغلقه وتفكر في قراءة عمل آخر، على سبيل التسلية، أو تمضي لشأنك، بل ستصرخ: اللعنة! وسرعان ما تقبع أحداثه في مكان ما من إحساسك، تلاحقك كالكوابيس في صحوك ومنامك. يحدث أن تقرأ أشياء أشد مأساوية في أعمال روائية، قد تتأثر، ولكنك سرعان ما تنسى كل شيء، عندما تتذكر أنها مجرّد خيال، وأنها من بنات أفكار المؤلف؛ لكنك مع هذا العمل، سيختلف الأمر تماما، أنت إزاء أحداث حقيقية عاش تفاصيلها المريرة الكاتب بنفسه؛ الأحداث كما هي، دون زيادة أو نقصان، أو تكلف لغوي أو سردي.
“أناشيد الملح، سيرة حراق” للعربي رمضاني، تجربة حياة حقيقية. نقطة الانطلاق، لحظة سخط تشبه اليأس، كانت من وراء قراره خوض تجربة مغادرة الوطن، سيتدارك: بل الهروب من الوطن. السخط يبدأ من هنا: تخرّج من الجامعة، أدى الخدمة الوطنية، ثم لاشيء، الفراغ واللاجدوى “لم يعد يوجد شيء يشجع على البقاء، نظام شاخ وهرم وأفلس، لم يعد لديه ما يقدمه سوى خطط أخرى مفلسة، لا زال يسرق من أعمارنا، ويضيف إلى عمره، واقع سياسي رديء محبط وموبوء، مع تفش للفساد والمحسوبية، وكوارث متعلقة بالمجتمع والبيئة والمحيط”.
هكذا سيودع أمه المكسورة برحيله، سيودع مدينته التي اختفت مظاهر البهجة فيها، الوادي الذي تعلم السباحة فيه، وبلده الذي أحكم على قبضته الأوغاد. من تركيا ستنطلق المغامرة، وهناك سيلتقي بكل الجنسيات، الجميع يراوده حلم البحث عن بصيص أمل. سيعيش وهو يتنقل من مكان لآخر فيضا من المشاعر المتناقضة، سيعيش الإحباط والأمل والخوف والانكسار والسجن والجوع والمرض والموت الوشيك. وسيكتشف مع البسطاء معاني التضامن الإنسانية، ويستنتج أن الشقاء الإنساني واحد، مهما اختلفنا في الدين واللغة واللون.
في آخر الكتاب، سنتعرف على مصير الحراقة الذين التقاهم، هناك من حقق أمنيته، هناك من هلك، هناك من كان مصيره السجن، وهناك من عاد إلى بلده يجر أذيال الخيبة. كان دافعهم في مطاردة خيط أمل من أجل حياة أنقى، كما كتب الروائي والاعلامي سعيد خطيبي في مقدمة العمل: “هو ما يحركهم للمجازفة، هو الذي يفتح أعينهم للنظر صوب الشمال، ركوب البحر، فالأمل هو عماد العالم كما يقول مثل افريقي، هو السقف الذي يحتمون تحته، ويوفر لهم مسافة أمان عن الموت”.
“أناشيد الملح، سيرة حراق”، العربي رمضاني؛ منشورات المتوسط، إيطاليا 2019.
…
لمحة تعريفية: بوداوود عميير، من مواليد مدينة العين الصفراء/ ولاية النعامة، قاص ومترجم، وباحث في الأدب الكولونيالي وكاتب مقالات في العديد من الصحف والمجلات الجزائرية والعربية. ومن بين ترجماته من الفرنسية إلى اللغة العربية، مجموعة من الكتب التاريخية والأدبية، فمن الكتب ذات الصلة بتاريخ الجنوب الغربي الجزائري. ترجم: “لمحة تاريخية عن الجنوب الغربي الجزائري” عام 2008، “كتاب النسب الشريف” عام 2009، “سيدي الشيخ، الشخصية الخارقة” عام 2010. كما ترجم المجموعة القصصية “ياسمينة وقصص أخرى” لإيزابيل إيبرهارت، والتي صدرت في طبعتها الأولى سنة 2011 عن دار القدس العربي في وهران، وعن كِتاب مجلة الدوحة القطرية في طبعة ثانية مزيدة ومنقحة سنة 2015. و”صوب البحر”، مجموعة قصصية صدرت عن دار الكلمة للنشر والتوزيع بالجزائر. وديوان “صديقتي القيثارة” للراحلة صفية كتو، صدرعام 2017، عن دار الوطن اليوم…
بوداوود عميير