أي جمال هذا الذي يراه الفنان سعد علي مجسدا أمامه، هو طبعا لا يقصد الجمال بمفهومه الافلاطوني و لا الجمال كما تصورته الفلسفة الهيغلية و لا جمال عصر النهضة و قواعد الكلاسيكية بمنظورها الأقليدي و نسبها التشريحية التي باتت لقرون عديدة تشكل أساسيات معايير التقويم الجمالي، إنه جمال آخر ذلك الذي أحس به سعد أثناء لحظات الإستبصار، جمال ينبثق من عالم الفن المستقل.
تجربة الفنان العراقي المغترب بإسبانيا سعد علي الذي عاش في عدة دول أوروبية مثل هولندا و فرنسا تنطوي على محتوى فكري و جمالي يسعى من خلاله لتخليد أعماله في خيال المتلقي ، وكأنه يقول ببساطة شديدة: أنا لا أريد أن أتلاشى في الروتين اليومي وأن انهماكه اليومي في العمل لثمان ساعات من النهار هو دليل علي مقارعته المستمرة لليأس، والضجر، والاسترخاء. يتسائل الفنان عن سعي الانسان بشكل محموم للعودة الي الجنة بعد أن طرده الله منها، ونفاه إلى الأرض؟ وهذا السؤال سيتفرع الي أسئلة أخُر من بينها: هل أن الأرض هي منفيً حقيقي، ودار عذاب؟ وهل تحيل إلى مكان يقترن بالسأم، واليأس، والعبث؟ وهل أن جنة عدْن علي الأرض هي بديل للفردوس السماوي الذي نتوق له جميعاً، أو نحاول أن نكتشفه، ونتعرف عليه في الأقل؟
كان لديه من الإرث الجمالي التجريدي ما يغنيه عن اللجوء إلى ما تعلمه في أكاديميات إيطاليا ببروجيا. كان يتنقل بين البلدان الأوروبية ممتلئا بالألغاز الجمالية إشارات وعلامات ورموز عباسية و منمنمات مغولية هندية. كل واحدة منها كانت تشكل وحدة لقياس المسافة بين ما يُرى وما لا يُرى من الجمال الذي كان الانسياب الموسيقي من بين معاييره.
كل واحد منا حسب الفنان قادر علي أن يصنع جنته الخاصة به، مثل صندوق عجائب نحمله معنا طوال رحلة الحياة الفانية، ويضيع هذا الصندوق أو يفقد قيمته ما أن يموت الإنسان، ثم يواري الثري؟ مذ وُلد الانسان علي الأرض كانت هناك جنة متخيلة تراكمت حولها القصص والحكايات، ونمت وتطورت حتى بلغت مرحلة الأساطير والخرافات التي لم تنجُ من المبالغة. فرسم الانسان علي هواه شكل النساء، وطعم الفواكه، وأنهار العسل والخمر والحليب. صور فيها من البراءة والخيال الشيء الكثير. ولأن سعد علي هو فنان تشخيصي بامتياز، ومتأثر بالواقعية. فقد كانت أعماله تدور في فلك التشخيصية التي تقترب من المذهب التعبيري الذي يستثمر بعض المبالغات الشكلانية التي تُخرِج عمله الفني من إطار التشخيصية الواقعية، وتنقله أحياناً الي حافات التجريد . يتلاعب الفنان بالتفاصيل، كاسراً الأشكال النمطية المتعارف عليها، ومُعيداً بناءها علي وفق الانفعال الآني الذي يصور المشاعر الحقيقية للشخصيات المتخيلة التي نقلها من ذاكرته البصرية، مُجسداً إياها علي ملمس القماشة. مضامين لوحاته تتعلق بعدن المُضاعة، والفردوس الذي بات مفقوداً علي أرض الواقع، لكنه يظل مقترناً بالحلم الفردي لكل انسان.
لم يهدر سعد علي شيئا من محتويات خزائنه الجمالية حين اكتشف أن في إمكانه أن يكون رساما معاصرا من غير أن يتخلى عن طبائعه. وهو الدرس الذي تعلمه في الغرب مستوعبا حقائقه. كان عليه بعد أن رأى رسوم الفنان الروسي مارك شاغال أن يصدق خرافته. خرافة أن يكون العالم البصري الذي شهدت طفولته بين ثنيّاته ولادة شعوره وإيمانه بالجمال المطلق. وهو جمال سيجد مَن يرحّب به عبر العالم.
لوحات تحتفي بثنائية المرأة والرجل، لكن سعد علي يعرف كيف يطوِّع هذه الثيمة الأزلية بعد أن يدخلها في شريط مخيلته، ويُخرجها في الزمان والمكان المناسبين. قد تبدو المرأة المُنتظِرة مألوفة في هذه اللوحة للمتلقي المتابع لتجربة الفنان فهو يعرف في الأقل عينيها الواسعتين، وأصابعها الطويلة المُرهفة.
لا شك في أن الجنّة التي يتخيلها سعد علي منبثقة من مخيلته المتقدة لكنه قد يختزلها في فتاة هيمانة أو صبي حالم هبط من الأعالي ليجد نفسه مستقرًا في عالمٍ لا يخلو من الدهشة والإبهار. تلك هي جنّة الفنان التي تسترخي فيها شخصياته وتجد نفسها محاطة بأعلى درجات الغبطة والحبور.
يشكِّل الحيوان مفردة أساسية في لوحة سعد علي ويهيمن عليها في بعض الأحايين خصوصًا حينما تكون هذه الحيوانات داجنة ووديعة مثل الظباء بأنواعها المختلفة أو القطط التي تستدرج المتلقي إلى دفء المنزل وحميمية علاقاته الداخلية.
يعتمد سعد علي في لعبته الفنية على زجّ مُتلّقيه في دائرة الدهشة والانبهار والحبور، ولعله يتمنى عليه أن يتبادل الأدوار مع شخصيات اللوحة بمشاركة عضوية ووجدانية قابلة للتحقيق، ذلك لأن رهانه الإبداعي قائم على ضرورة التماهي بين المُشاهِد والعمل الفني بغية الوصول إلى اللذة البصرية التي تدفع المتلقي إلى التحليق في فضاء اللوحة والانقطاع المؤقت عن حركة الحياة الواقعية التي تنبض من حوله.
لوحات تتناول موضوعة الاحتفاء بالحياة الدنيوية بعد أن ارتكب آدم الخطيئة وأكل التفاحة من الشجرة المحرمة التي كانت السبب الأول والأخير وراء طرده من الجنة، مع ذلك فنحن نأكل التفاح، ونقترف الخطيئة ذاتها كل يوم غير آبهين بالعقوبات المؤجلة. علي وفق هذا التصور يجب أن نحلل القيمة الفكرية والجمالية لأعمال سعد علي الفنية من دون أن نهمل الأبعاد الثقافية، والدينية، والأسطورية.
التشكيلي مصطفى بوسنة