تواجدت أشكال مسرحية فرجوية في شمال إفريقيا بالمفهوم الشعبي هي مسرح خيال الظل والقراقوز، ومختلف الأشكال الاحتفالية الأخرى كاحتفالية “إيراد” و”سبيبة” و”القوال”، التي لا تزال قائمة إلى اليوم في بعض مناطق الداخلية للوطن، وتظهر من حين إلى أخر في بعض أسواق المدن الكبرى.
أهتم الجمهور الجزائري في أواخر منتصف القرن العشرين بالعروض المسرحية التي كانت تقدم في فضاءات شعبية مختلفة والتي كانت تستمد مواضيعها من المحيط الاجتماعي الثقافي الانتمائي، أدت حتما فيما بعد إلى تطور جزئي للممارسة المسرحية إلى غاية بروز فرق مسرحية مهنية في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين. هل يمكن أن نحدد صفات التجربة المسرحية الجزائرية بالمفهوم الذي نحدد به التجربة المسرحية الأوربية أو الروسية أو الأمريكية؟ وبعد ذلك نطرح السؤال الجوهري المتعلق بمحور موضع الممارسة. ثم نحدد الأسباب الدافعة إلى الانتقال من الكتابة الدرامية الارسيطية إلى الكتابة الملحمية أوالتخلص من قواعد الكتابة الدرامية وتعويضها بنصوص ملحمية سردية كاملة.
الملاحظ ان بداية التجربة المسرحية في المجتمع الجزائري كانت أساسا مبنية عن الاقتباس أوالتحويل مثلها مثل كثير من التجارب العربية . لكي ندرك حتمية مرحلة الانتقال إلى النص الذهني الملحمي في التجربة المسرحية الجزائرية لابد أن نذكر العوامل والأسباب التي أدت إلى هذه الممارسة. ثم هل كانت هناك كتابة درامية قد وفرت الرصيد الكافي للانتقال إلى النص ما بعد الدرامي؟ ولكن هذا لا يمنعنا من تصنيف التجارب الثلاثة ولد عبدرحمان كاكي وكاتب يسين وعلولة عبد القادر بأنها تدخل في مسار الممارسة الفنية التي تخلصت من قواعد ومعايير البناء الدرامي الكلاسيكي واللجوء إلى توظيف عناصر التراث الشعبي اللامادي مثل القوال والمداح والحلقة وعناصر أخرى مثل الأمثال الشعبية والشعر الملحون والتراث الموسيقي.
يبدوأن مصطلح “الإخراج” ترسخ في أواخر القرن التاسع عاشر وبداية القرن الماضي ليخلخل الركود النسبي الذي أصاب الكتابة والعروض المسرحية في شكلها الكلاسيكي المألوف عموما في أوروبا مع أندري أنطوان وڨلدون كريق وبيسكاتور وأبيا ورينهارت في مطلع القرن وقسطنطين ستالينسلافسكي ومييرهولد فيزيفولد وانطونين أرطووبيرطولد بريشت بالرغم من أن هذا الأخير يختلف في رؤيته للإخراج متناقضا مع الأولين، ليهتموا أساسا بالفضاء والحدث والممثل و الجمهور.
اعتمد الممارسون الثلاثة أساسا على الكتابة الركحية بحيث أن الممثل والنص أصبحا عنصران مهمان بحكم ارتباطهما بالحياة الاجتماعية والفكرية.
1-التجارب الأوروبية المؤثرة في التجربة الإخراجية الجزائرية
بدا المخرج والمنظر الروسي مييرهولد في بداية القرن العشرين بعدما انفصل عن المسرح الفني الذي أسسه قنسطنطين ستالينسلافسكي قبل الثورة البلشيفكية في أواخر القرن التاسع عشر بداية القرن العشرين والذي قام بتجارب فما يخص إعداد الممثل ومنها انبثقت منهجيته القائمة على حقيقة الشخصية الدرامية على الخشبة أي المنهج السيكولوجي الطبيعي الواقعي في الأداء.
اختلف مييرهولد مع نظيره ستالينسلافسكي وابرز طريقة جديدة في التعامل مع الممثل وبناء العرض المسرحي وسميت هذه الطريقة “البيوميكانيك” التي تعطي الحرية الكاملة للمخرج ان يتعامل مع النص والخروج عن المألوف في عملية الإخراج التي أصبحت كتابة ثانية. اعتمد مييرهولد على اكتشافات العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف وظاهرة الانفعال الشرطي.le reflex conditionné. لم يعتمد كثيرا مييرهولد على النص وإنما يعوض جزء منه في كثير من الأحيان بمفردات فنية مرتبطة بجسد الممثل والإيقاع والموسيقى والرقص أحيانا أخرى بعناصر السينوغرافية ليعود إلى الأشكال البدائية في مقاربته للعلاقة بين المشاهد والحدث أوالممثل الذي أصبح العنصر الأساسي في بناء العرض. وهذا ما دفع بيرتولد بريخت في تجاربه للابتعاد عن الكتابة الدرامية بمفهومها الأرسطي متأثرا بطريقة مييرهولد منتقدا منهج ستالينسلافسكي معتبرا إياه ناقلا للحقيقة الواقعية التي لا جدوى منها في تركيب الوعي الجمعي وتغيير الأوضاع الاجتماعية بحكم عقيدته الإيديولوجية الاشتراكية. انتشر الأسلوب الجديد في كل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ليولد اتجاه جديد فعلي في الكتابة وهو”مسرح العبث” والمسرح التربوي الملحمي ولكن محافظا جزئيا على قواعد البناء الدرامي الأرسطي. بالنسبة انطونين أرطوفكان له نصيب من التأثير في التجربة المسرحية الجزائرية. لقد ثار الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي رافضا القواعد الكلاسيكية التي أسسها أرسطوفي الكتابة المسرحية وبناء العرض والطريقة الاندماجية السيكوطبيعية الدرامية ستالينسلافسكي جزئيا. وقف في تجاربه ضد المذهب الواقعي. لقد كان له تأثيرا بالغا في عدد كبير من المخرجين في منتصف القرن العشرين في ارويا بعد الحرب العلمية الثانية…
يـــتبع
الدكتور المسرحي حبيب بوخليفة