بعد رحلة حج إلى الناخبين دامت أكثر من 20 يوما عاد المترشحون للانتخابات التشريعية ل4 ماي إلى قواعدهم. وقت التقييم قاد حان وساعة التخمين دقت لدى الأحزاب والمراقبين. أسئلة كثيرة تطرح عن الحملة الانتخابية لهذا الاستحقاق التشريعي السادس في ظل التعددية الحزبية التي أقرها دستور 1989. سنحاول في هذا المقام الوقوف عند مميزات محددة من ضمن أخرى كثيرة ميزت حملة التشريعيات هذه السنة.
هاجس المشاركة وحملة ضد العزوف
لعل ما حقق الإجماع لدى المشاركين في الانتخابات هذه المرة، سواء من أحزاب السلطة أو أحزاب المعارضة هو التسابق المحموم إلى دعوة الناخبين إلى الذهاب بقوة إلى صناديق الاقتراع. وقد نالت هذه الدعوة دعما كبيرا من أجهزة الدولة التي شرعت في حملة دعاية واسعة من أجل التصويت تحت شعار سمع صوتك. حملة أسندتها المساجد والزوايا من خلال استغلال منابر الجمعة للدعوة إلى التصويت. وهي الدعاية التي ميزها الترغيب في مشاركة المواطن في اختيار ممثليه من جهة وتخويف من عواقب أي مشاركة ضعيفة في هذا الاستحقاق على الأمن والاستقرار.
وإن كان الجميع قد دعا إلى مشاركة واسعة للناخبين إلا أن أحزاب المعارضة رأت فيها ضرورة ملحة لعلها تمكنها من ترجيح الكفة أمام كتلة ناخبة منضبطة مع حزبي السلطة التقليديين وهما حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي. ومع كثافة الدعوات وتنوعها بدا جليا أن الطبقة السياسية ظلت بعيدة عن تعبئة المواطنين للمشاركة في تجمعاتها ولقاءاتها بل ظهرت الحملة باهتة رتيبة بالرغم من اجتهاد بعض رؤساء الأحزاب لإعطائها طابع الإثارة لاستقطاب المتابعين.
ومن بين التفسيرات التي قدمت لحالة العزوف المزمنة هذه ما ذكره المختص في علم الاجتماع السياسي الدكتور ناصر جابي ل”الجزائر” وهو أن المواطن فهم أن الانتخابات ليس وسيلة للتغيير ولا للتداول على السلطة وأن الأحزاب السياسية التي أنيطت بها مهمة جلب الناخبين لا تزال مغلقة على نفسها ولم تطور أساليب الاقتراب من المواطن الذي لا تزوره إلى في المناسبات الانتخابية.
وقد عزز هذا الفهم أن الخارطة السياسية البرلمانية لم تعرف تغييرا معتبرا ومهما منذ عقود من الزمن فنتائج الانتخابات تكاد تعرف مسبقا وتوقعات المراقبين لا تخرج من كون الانتخابات إنما هي استنساخ لسابقاتها مع بعض التغييرات في الوجود حتى أن هناك من النواب من يطمح في عهدة رابعة وخامسة في المجلس الشعبي الوطني. وتبقى هذه التفسيرات مجرد فرضيات قد تدحضها عملية الاقتراع التي بدأت وستعرف ذروتها هذا الخميس.
حضر الماضي وغاب المستقبل
على غير التوقعات بأن الزمن تجاوزها، حضر الشرعية التاريخية بقوة في الحملة الانتخابية وحضر معها الجدل حول أحقية حزب جبهة التحرير الوطني بالأغلبية وحكم البلاد من منطلق أنه الأسبق والأكثر ارتباط بالوجدان الوطني وأنه الدولة كما عبر عن ذلك أمينه العام جمال ولد عباس الذي ذهب يمينا وشمالا في الماضي ليدعم الشرعية التاريخية لحزبه. حيث أخبر أهل تيزي وزو أن الأفلان ولد عندهم كما ذكر أهل بسكرة أن عقبة بن نافع من ممتلكات “الحزب العتيد” عكس غريمه الذي لا يتعدى عمره 20 سنة. وحضرت الثورة التحريرية بقوة في مستهلات خطاب ولد عباس وامتدت إلى شخصه مؤكدا بأغلظ الإيمان أنه مجاهد رفيق العربي بن مهيدي وبن بله قبل أن يحكم عليه بالإعدام.
ولم تغب صورة الرئيس بوتفليقة، رئيس الحزب، وذكر اسمه كمجاهد ورئيس الدولة عن خرجات الأفلان وهو ما أثار حفيظة غريمه الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي احمد أويحيى الذي دعاه إلى وضع الرموز الوطنية والتاريخية جانبا والحديث عن البدائل والمستقبل الذي غاب أو كاد عن خطابات الأحزاب المشاركة التي اكتفت باستعراض رصيدها التاريخي ومعاينة نقدية للوضع القائم في أحسن الأحوال دون الاهتمام بالمستقبل اللهم إلا في بعض البرامج الانتخابية القليلة التي قدمت إلى الناخبين مكتوبة والتي احتوت على إشارات طفيفة وهو ما اعتبره كاتب الدولة السابق للاستشراف والإحصاء الدكتور بشير مصيطفى مشجعا بالمقارنة مع البرامج الانتخابية للاستحقاقات الماضية.
وأكد مصيطفى ورود كلمات الاستشراف والتخطيط واليقظة في برامج الأحزاب لكنها لم تتجاوز كونها عناوين أدبية دون أن ترقى إلى الحديث عنها كمنظومة فكرية وبرنامج عمل تقني، واستبشر مصيطفى خيرا بإرهاصات دخول ثقافة صناعة الغد في برامج بعض الأحزاب السياسية ولو كعناوين دون الخوض في التفاصيل.
تحديات الوضع الاقتصادي
اجتهدت الأحزاب المشاركة في تشريح الوضع الاقتصادي وأسهبت في نقد سياسات الحكومة لم تسلم هذه السياسات حتى من لسان احمد اويحيى على غير العادة حيث انتقد سياسة رفع الأجور والتوجه نحو شراء السلم دون أن تقدم لنا تصورات للخروج من الأزمة إلا بعض الأحزاب التي نشرت برامجها مثل حركة مجتمع السلم والتجمع من اجل الثقافة والديمقراطية والتجمع الوطني الديمقراطي وحزب جبهة التحرير الوطني. وقد كانت التصورات التي طرحتها الأحزاب محل انتقاد من طرف الخبراء الذين أشاروا إلى إغفالها ذكر كيفية التخلص من التبعية للمحروقات وتنوع الصادرات وإصلاح النظام الجبائي والمصرفي ودفع الاستثمارات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة. وأعاب الخبراء على الأحزاب اكتفاءها برفع شعارات وانتقاد التوجهات العامة للحكومة.
عين على زيغوت وأخرى على المرادية
لم يختلف المتابعون للحملة الانتخابية لتشريعيات 4 ماي في أن ظل ما بعد الرئيس بوتفليقة خيم على دور قيادات الأحزاب الموالية للسلطة وخطاباتها في هذه الحملة. وظهر جليا للرأي العام أن خرجات الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي للدفاع عن حظوظ قوائم التجمع حملت في طياتها خطابا ورسائل توحي بأن الرجل بدأ يعد العدة لما هو قادم في الوقت الذي أعلن فيه ولد عباس أنه آل على نفسه وحزبه أن لا يتحدث بعد الآن عن عهدة خامسة للرئيس بوتفليقة وهو ما يؤشر بأن الرئيس بوتفليقة قد كشف لمقربيه أنه لن يدخل المعترك الرئاسي المنتظر بعد عامين وهو ما جعل احمد أويحيى، الذي أعلن في أكثر من مرة أنه لن يترشح للرئاسيات منافسا الرئيس بوتفليقة وما دون ذلك فالرئاسة موعد رجل مع قدَره، يدخل مبكرا في سباق ظاهر أهدافه أغلبية برلمانية وفي باطنه منافسة قبل الأوان على منصب القاضي الأول في البلاد.
وقد أدرك حزب جبهة التحرير الوطني رسائل احمد أويحيى الخارجة عن النص فسخر جانبا كبيرا من حملته لقطع الطريق أمام “طموحات أويحيى” وهو ما جعل ولد عباس يؤكد أن حزبه هو مؤسس الدولة الجزائرية بل هو الدولة بعينها وأن محاولات إبراز طموحات ما بعد بوتفليقة إنما هي “طعنة في ظهر الرئيس” لاسيما من قبل مدير ديوانه وهو ما أدى إلى الإعلان عن تعيين الطيب بلعيز خلفا له في المنصب. ولم يكتف خصوم احمد اويحيى بردود ولد عباس بل تلته زيارات ميدانية للوزير الأول عبد المالك سلال إلى بعض الولايات في عز الحملة الانتخابية. وإن كانت الحكومة قد عودت على الخرجات الميدانية في فترة الحملة الانتخابية إلا أن انبعاث السباق نحو المرادية قبل أوانه أضفى على خرجات سلال طابعا انتخابيا دعما لحزب جبهة التحرير الوطني وتطلعا لما بعد الانتخابات التشريعية.
ويرى مراقبون أن تصاعد الحملة بهذا الشكل يوحي أن رجال السلطة شرعوا في “انتخابات تمهيدية” إذ بينت التجربة أن السلطة لا تدخل الانتخابات بعدة رؤوس فالسباق كما هو مطروح الآن إنما لإبراز المرشح الذي تؤهله السلطة لخلافة الرئيس بوتفليقة إذا ثبت عدم رغبته في خوض السباق الرئاسي للمرة الخامسة.
وليست الرئاسيات وحدها من خيم على موعد 4 ماي فالحكومة المتوقعة بعد التشريعيات نالت نصيبها من التصريح والتلميح. وإن كان الأمين العام للأرندي قد استبعد الخروج بحكومة ائتلافية موسعة إلى عدة أحزاب فإن حركة مجتمع السلم لم تنف رغبتها في المشاركة في حكومة مقبلة جسدها تيار داخل حمس يتزعمه أبو جرة سلطاني يتجه نحو إعادة تشكيل التحالف الرئاسي الثلاثي الذي رافق الرئيس بوتفليقة من 2004 إلى غاية 2012 قبل أن يحدث الطلاق عشية التشريعيات السابقة وينصرف حمس إلى تحالف انتخابي مع الإصلاح الوطني والنهضة.
وبين التجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم بدا حزب جبهة التحرير الوطني أكثر ثقة في النفس في إحراز أغلبية برلمانية مريحة تمكنه من الحضور بقوة في الحكومة المقبلة التي لا يراها إلا تجديدا للثقة في الحكومة الحالية ولو أن اتحاد النهضة والبناء والعدالة لا يخفي طموحه في الالتحاق بركب الحكومة الجديدة المرتقبة فضلا عن رغبة كل من عمار غول وعمارة بن يونس في أن يكون لحزبيهما نصيب في الجهاز التنفيذي الذي يتوقع تشكيله بعد الانتخابات. وأمام الرغبات والتصريحات والتلميحات يظل القرار الأول والأخير بيد الرئيس بوتفليقة.
احسن خلاص