لا يزال تاريخ 5 أكتوبر 88 يشكل محطة مهمة في الذاكرة الجزائرية ليس فقط عند عامة الشعب الجزائري أو بعض السياسيين الذين واكبوا هذه المرحلة المفصلية في تاريخ الجزائر المستقلة وإنما حتى لدى العديد من النخب الثقافية والصحفيين الجزائريين الذين عايشوا هذه الفترة الذهبية التي فسحت لهم المجال لاقتحام عالم التعددية الإعلامية في فضاء أكثر حرية حيث بعد سنوات من التضييق خلال فترة الحزب الواحد التي تمتد من تاريخ استقلال البلاد 1962 إلى غاية إعلان دستور الحريات في فيفري 1989.
تظل أحداث 5 أكتوبر معلم ومرجع بالنسبة للصحفيين الجزائريين الذين واكبوا هذا التاريخ الذي فتح أمامهم أبواب ولوج عالم الانفتاح والتعددية الإعلامية والسياسية بعد سنوات طويلة من العمل تحت رقابة نظام الحزب الواحد، ولكن السؤال يبقى مطروحا حول رواسب الانفتاح الذي حملته رياح التغيير في أكتوبر 88 ونحن نخلد الذكرى الثلاثين لهذه الأحداث المفصلية في تاريخ الجزائر المستقلة ؟؟.. سؤال طرحته جريدة “الجزائر” على مجموعة من الصحفيين والنشطاء في الميدان الإعلامي الذين واكبوا هذا التاريخ فكانت إجاباتهم مختلفة لكنه في الوقت ذاته برز إجماع لدى الكل أن هناك تراجع رهيب في الميدان الإعلامي سواء في الممارسة أو في المضمون بخصوص متكسبات انتفاضة “أكتوبر” 1988، وإن كان هذا التراجع حسب محاورينا بدأ خلال فترة التسعينات حيث شكلت الأزمة الأمنية آنذاك أولى محطات التراجع عن حلم بناء واقع إعلامي جزائري وطني مزدهر.
• عابد شارف كاتب وصحفي
“مضمون الصحافة بعد أكتوبر 88 أرقى من واقعها اليوم”
أكد الكاتب الصحفي عابد شارف أن مضمون الصحافة الوطنية بعد دستور 1989 الذي أفرزته أحداث 5 أكتوبر 1988 “أرقى” مما نطالعه اليوم في الصحافة الحالية. وأرجع عابد شارف ما وصفه بـ “التقهقر” إلى “إرادة من السلطة” التي قال بشأنها أنها بطبيعتها ترفض “السلطات المضادة”، مشيرا في السياق ذاته، إلى رفض السلطة وجود أقطاب سياسية أو اجتماعية مستقلة منظمة أو مهيكلة من بينها قطاع الإعلام.
وأفاد الكاتب الصحفي عابد شارف الذي سبق له العمل كمراسل لوكالة الأنباء الفرنسية بالجزائر أن “السلطة يحق لها القول ما تشاء في إطار الدفاع على نفسها لكن الواقع يؤكد عكس ذلك”، قائلا في السياق ذاته “الواقع يفيد أنه إذا لم تكن صديقا للسلطة فلا يحق لك إنشاء قناة تلفزيونية خاصة وحتى الصحافة الالكترونية تعمل في إطار غير قانوني وإذا أقلقتهم فإنهم سيسحبون منك الموقع”، مبرزا في الشأن ذاته “تواصل معاناة الصحافة الوطنية من ضغوطات مختلفة”، واختتم عابد شارف حديثه معنا “السلطة ترفض وجود أي قطب اقتصادي أو سياسي أو فكري مستقل عنها”.
• احميدة عياشي إعلامي وكاتب صحفي
“الثورة المضادة استطاعت تصفية مشروع 5 أكتوبر”
يرى احميدة عياشي الإعلامي والكاتب الصحفي ومؤسس صحيفة “الجزائر نيوز” المتوقفة عن الصدور أن حركة الصحفيين الجزائريين هي التي ساهمت في دفع الحراك الإعلامي بعد أحداث أكتوبر 1988 وخلقت المشهد الصحفي التعددي لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة.
وأرجع احميدة عياشي الذين يعتبر من الصحفيين الجزائريين الذين عايشوا في الميدان أحداث 5 أكتوبر 1988 بالجزائر العاصمة، هذه المحطة بأنها “شكلت للصحفيين الجزائريين مغامرة عادت عليهم بالصواب والخطأ وأنتجت جيل جديد من الإعلاميين المتمرسين”، ويقدر الكاتب الصحفي عياشي هذه التجربة أنها راكمت لدى الجيل الصحفي الذي تفاعل معها بـ “خبرة أحدثت نقلة نوعية بعد النقلة الكمية”.
من جانب آخر، يرى مؤلف كتاب “سنوات الشاذلي بن جديد” أن التراجع عن مكتسبات 5 أكتوبر 88 ودستور 1989 بدأت خلال ما وصفها بـ “الحرب الأهلية” أي في سنوات التسعينات، حيث قال المتحدث أن السلطة في تلك الفترة “قامت بإغلاق أكثر من عشر عناوين صحفية بسبب عدم موافقة السلطات في سياستها”، وأضاف احميدة عياشي “كما بدأ مسلسل اختراق الصحفيين وخلق نقابات لا تمثلهم”، وبعد انقضاء فترة الإرهاب بعد سنة 1999، يقول عياشي أن المضايقات القضائية والمالية تواصلت كما شهدنا تفخيخ المشهد الإعلامي عبر فتح المجال لأناس لا علاقة لهم بالإعلام ولا ينتمون لرجال أعمال حقيقيين يحملون صفة المنتجين”.
ويرى الكاتب الصحفي احميدة عياشي أن “الثورة المضادة” استطاعت تصفية مشروع 5 أكتوبر 88، معتبرا أنه بعد ثلاثين سنة من حلم 5 أكتوبر يقف الصحفيون الجزائريون اليوم أمام مشهد إعلامي “هش” حيث “لا تستطيع أي وسيلة إعلامية الصمود أكثر من خمس سنوات، وفي ظل مشهد سياسي مزيف وغير حقيقي وواقع إعلامي ضعيف يبقى المستقبل جد غامض”.
• عبد العزيز بوباكير كاتب صحفي وأكاديمي
“الصحفيون يتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية أوضاعهم”
أكد عبد العزيز بوباكير الصحفي والأستاذ الجامعي أن هناك تراجع ملحوظ في الممارسة الإعلامية في الجزائر مثلما هو واقع في الممارسة السياسية والحقوقية مقارنة بالفترة التي تلت أحداث 5 أكتوبر 1988.
واعتبر عبد العزيز بوباكير مؤلف مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد أن أبرز ما أتت به هذه الأحداث شعار لطالما رفعه الصحفيون الجزائريون وهو “حرية الصحافة” الذي تبنته فيما بعد نقابة الصحفيين في عهد التعددية. ووصف بوباكير الواقع الإعلامي اليوم بأنه تحت “حصار” ملقيا بالمسؤولية على جميع الفاعلين بما فيهم “السلطة والصحفيين الذين لم يستطيعوا تنظيم أنفسهم داخل إطار نقابي قوي يدافع عن حقوقهم وواجباتهم”، مقدرا في الأخير أن الصحفيين “يتحملون جزء كبير من المسؤولية”.
• محمد إيوانوغان إعلامي
“لم يبق من التعددية الإعلامية سوى العنوان”
اعتبر الصحفي محمد إيوانوغان أن هناك تراجع رهيب عن مكتسبات 5 أكتوبر 1988 في الميدان الإعلامي، وذهب إيوانوغان للتأكيد على أن التجربة “انحرفت تماما” بحيث أنه لم يبقى أمامنا من التعددية إلا مجموعة من العناوين في حين أن المضمون اندثر.
وشدد الصحفي محمد إيوانوغان الذي سبق له العمل في عدة عناوين صحفية جزائرية منذ فترة التسعينات ولا يزال يمارس المهنة إلى اليوم، أن تجربة صحافة ما بعد التعددية “أحدثت قطيعة مع إعلام الحزب الواحد لكننا اليوم رجعنا إلى هذا الإعلام الأحادي”.
ورمى إيوانوغان الكرة في مرمى السلطة التي قال أنها استطاعت “احتواء مكاسب الصحفيين بعد 88 كما أفرغت المكاسب السياسية والنضالات الحقوقية والمدنية والمدافعين عن حقوق المرأة”، ونفى إيوانوغان أن يكون الصحفيون مسؤولون عن هذا الواقع لأنهم –حسبه- قاوموا عشر سنوات من أجل البقاء على قيد الحياة خلال فترة الإرهاب.
وحول واقع الممارسة الإعلامية، شدد إيوانوغان على أن الصحافة “انفلتت من أيدي المهنيين”، وأرجع الصحفي ذاته أن قانون الإعلام الصادر سنة 1990 كان يشترط تأسيس المؤسسات الإعلامية من خلال الاعتماد والنشر لصالح الممارسين للمهنة، لكنه بعد 1999 دخل رجال أعمال لا علاقة لهم بالميدان المهنة وتم تأسيس جرائد حرفوا من خلالها مبادئ العمل الصحفي”.
جمعها: إسلام كعبش