جريدة الجزائر اليومية الجزائرية
مقالات مشابهة
في كل اعماله الضخمة أو في لوحاته المرسومة على مساحات صغيرة، يلجأ بن بلة إلى رسم إيقاعي تتحكم خطوطه الحيوية والمكررة في عملية توزيع الألوان، فيظهر لنا على شكل رقصة تجلب الدوار بحركاتها الكوريغرافية، أو على شكل سيمفونية بألحان متعددة يقودنا رقصها إلى حدود النشوة .عبر رسم مساحات لونية متداخلة تتقاطع ألوانها فيتشكل من خلال هذا التقاطع التقاء لونين و أكثر ..
المساحة التي يرسم عليها بالتأكيد لا تصدر أصواتا و مع ذلك فهي مثلها كمثل الموسيقى الجيدة تثير ذلك الشعور الذي كان يمتلكه و يخلق لدى المشاهد حالة مزاجية معينة محققا ذلك من خلال التقنيات التعبيرية..
إبتعد عن المحاكاة الساذجة محاولا الإستخراج و البحث عن حقائق جوهرية متخفية بعيدا عن المظاهر الحسية المادية ..و هذا هو المفهوم نفسه الذي تنادي به نظرية الفيلسوف الألماني شوبنهور بتجريد الاشكال من الطبيعة الواقعية بفصلها عن قالبها الواقعي و تأخذ الفكرة مكانها الصحيح محل الشكل الواقعي و ان بدا عليها بعض الغموض و يتحقق ذلك بالموسيقى.
حاسة الإدراك الخارقة لهذا الفنان تجعلنا نشعر أن لألوانه أصواتا تشبه النغمات الموسيقية كما تشهد على خيال متألق في إعادة صياغة الطبيعة و الواقع برؤية إيحائية تشير الى توتر نفسي داخلي للإحساس بالجمال.
يكتفي من الشيء الممثل بما تدل عليه رمزيا من دون الخوض في تفاصيله الجزئية مرتقيا بفنه الى مرتبة العلاقات الشكلية المحضة التي تقترب من الموسيقى.
تتميز لوحات الفنان بضربات الفراشات الإيمائية السابحة في خلفية شاسعة معبرة عن المشاعر و باحثة عن الذات الداخلية تسافر بنا عبر أحاسيس روحية كبيرة عاكسة حالة ذهنية ساعيا الى توصيل المفاهيم و الأفكار و العواطف بطريقة مجردة تتعدى استكشاف المبادئ الفنية للتكوين..النغمة..القيمة..الخطوط .
يبدو الفنان في حالة صراع مع الفضاء الذي يحل فيه، رسم يستمدّ من مغامرة العقل الإنساني الأول و بداياته الطوطمية…
ابتكر أشكالا حروفية ورموز تمائمية قريبة من الكتابة الهيروغليفية محرّرة من أي وظيفة دلالية، بحيث يكون البحث عن الدلالة بفنه هو خطأ في الاتجاه..لأنه لا يملك دلالة و لا معنى مباشر ..إنه فن بحمل جماله في ألوانه و خطوطه..
يبحر الفنان عبر حروفية رمزية خاصة تسمح له بإسقاط جوانب من ذاته والتعبير عن عوالمه الخاصة، عاكسا صخب الطبيعة الحياة و نشوة الألوان في اللوحة التي لا يمكن ان يبنى عن طريق المتعة النفسية الفردية فقط و لكن يبنى على اتصال الروح الإنسانية مع نظام الكون الخفي.
ما فعله بن بله يمكن أن يدخل في مسعى الرسام إلى أن يؤلف موسيقى بصرية، ذلك المسعى كان يشكل دائما واحدا من أهم أهداف المغامرة الجمالية التي خاضها الفن الحديث في محاولته التحرر من قيود وشروط المفهوم التقليدي للرسم.
شهرة بن بلة العالمية لم تجتذب المؤسسات الفنية العربية للاهتمام بها مثل كل التجارب الفنية الجزائري حيث لا نجد لوحة واحدة عبر كل متاحفها باستثناء القليل منها بالجزائر.
رسوم بن بله هي في أساسها تداعي حر، لا لأنه ليس في الإمكان قراءتها أو التحقق من معانيها بل لأنها تكاد تكون نوعا من المحاولة لاختراع لغة جديدة، قوامها التفاعل البصري مع انفعال غامض، يكاد الرسام نفسه يجهل دلالاته. وهو ما جعل من تلك الكتابة قريبة من التعاويذ والرّقى ذات الإيحاء الرمزي….يستعيد الفنان في أعماله كل التراث الجمالي الإنساني باستعادته للمكنون الجمالي للألواح الطينية السومرية…الكتابات الهيروغليفية الفرعونية …منحوتات الفودو الإفريقية و الكثير من الكنوز التي يعيد بعثها من جديد في قوالب حديثة..
التشكيلي مصطفى بوسنة