يقدم الملاحظون المراقبون للشأن الجزائري موسم 2018 إلى 2019 على أنه منعرج هام وصعب بالنظر إلى السياقات السياسية والاقتصادية الحساسة المرتبطة بمصير البلد لاسيما أن العشرية الثانية من القرن الحالي توشك على الاختتام بعدما ظلت فيها الجزائر بين كفي عفريت منذ اندلاع الاضطرابات السياسية في العالم العربي فيما يسمى ثورات الربيع العربي، أضيفت إليها ضائقة مالية تسبب فيها هبوط أسعار النفط وتهديدات أمنية على الحدود الشرقية والجنوبية بالأخص.
ومع كل هذه المخاطر استطاعت الجزائر أن تحافظ على حد أدنى من الاستقرار والهدوء في ظل اضطرابات داخلية اعتبرت صحية ما دامت لم تمس بالبنية العميقة للدولة وأركانها كما كان الأمر في تسعينيات القرن الماضي حيث اجتمعت على الجزائر ضغوط شتى ومن كل الجهات.وها هي الجزائر تجهز نفسها لاستقبال موسم سياسي انتقالي بامتياز، موسم ستتعرف فيه على رئيسها القادم وقد تذهب إلى حد إعادة النظر في سياسات بأكملها لاسيما في المجال الاقتصادي في ظل مؤشرات تغيير جذري غير معلنة لكنها تبدو للملاحظين على أنها أكثر من مجرد خيارات بل تفرضها المرحلة إذا ما أدركنا أن ما لا نتحكم في تغييره سيفرض علينا تغيره الذي يحتمه تطور الأشياء ذاتها. هو إذن موسم مفتوح على كل المشاهد والاحتمالات وعلى كل المخاطر والانزلاقات في ظرف إقليمي ودولي لا يسمح بالخطأ في التقدير ولا بالغفلة في إدراك طبيعة الأصدقاء والخصوم وفي ظرف داخلي يسوده الإبهام والغموض والتشخيص السطحي للأزمة والنقاش السياسي الهزيل والعقيم حول أمهات القضايا التي تشغل حاضر ومستقبل البلد. وبالموازاة مع هذه الصورة طبقة سياسية، من موالاة ومعارضة، تترقب المصير السياسي للرئيس بوتفليقة وبالأحرى موقعه من الاستحقاق الرئاسي المنتظر في أفريل من العام المقبل، تناشد الرئيس التقدم لولاية خامسة أحيانا وتكتفي أحيانا بالحديث عن جبهة شعبية جاهزة لدعم استمرارية الوضع القائم منذ عام 1999، لاسيما في حال ما إذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من مشاركة الرئيس بوتفليقة في هذا الموعد الهام ضمن الأجندات الانتخابية للدولة.
أين رأس الخيط؟
غذت التغييرات التي حدثت في أعلى هرم المؤسسة العسكرية خلال أوت المنصرم حديث الصالونات واحتدم النقاش بين من يرى فيها تمهيدا لتغييرات كبرى وعميقة يستعد النظام لإجرائها على نفسه قصد التكيف مع مرحلة قادمة وبين من لا ينظر إليها كذلك بل يعتبرها مجرد روتينية ودورية دأبت عليها المؤسسة العسكرية ضمن هيكلية موجهة لأغراض عسكرية وأهداف استراتيجية لا يفقهها إلا أهل الدار. الجيش نفسه برر هذه التغييرات على لسان الفريق قايد صالح بأنها تندرج ضمن سنة التشبيب والتداول وفق منطق الجدارة والاستحقاق داخل مؤسسة الجيش. غير أن حجم هذه التغييرات التي مست قيادة القوات البرية وقيادات النواحي العسكرية أعطت للتخمين وتضارب الآراء مبرراتهما.
وما أعطى هذه النقاشات نكهتها أن التغييرات أتت متزامنة مع دعوات سياسية للجيش للتدخل مباشرة وعلنا في رسم المشهد السياسي القادم رفقة الطبقة السياسية، وهو ما ظل رئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح ينفيه مؤكدا نأي العسكر بأنفسهم عن الشأن السياسي وأن الآمر الوحيد الذي يستجيبون له إنما هو رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويتزامن الحديث عن التغييرات الثقيلة التي مست أركان الجيش على وجه الخصوص نقاش جانبي آخر حول تغيير حكومي، بين من يقدره جذريا عميقا وبين من يرى أنه تعديل خفيف، في حين يرى آخرون أنه لا يوجد ما يبرر أي تغيير للحكومة على أشهر فقط من الاستحقاق الرئاسي. وبين هذا الرأي وذاك ثمة مؤشرات على القلق السائد الذي تفرضه طبيعة هذه السنة الانتقالية وتساؤلات لا تبرح الأذهان، كيف، وبماذا، وبمن، وإلى أين، كلها تهم حال ومآل هذه السنة السياسية المضطربة والصعبة بامتياز.
ولعل ما يغذي هذه التساؤلات غياب الاتصال وطغيان الإشاعة وسيادة التقديرات العشوائية ودخول محترفي “السوسبانس” والمفاجآت على الخط من خلال أخبار مسربة أو مهربة وأخرى لا تمت للواقع والمنطق بصلة لكنها أميل للتصديق في جو من الاضطراب والضباب يجعل الملاحظ في حيرة من أمره في التعامل مع المعلومات. وفي ضعف الاتصال الرسمي يتولى وسطاء عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي مهام الشرح والتوجيه والتعليق وفق توجهاتهم وأهدافهم السياسية.
غير أن ما رفع سقف التساؤلات، التطورات الأخيرة المتعلقة بصحة الرئيس بوتفليقة الذي حمل على طائرة رئاسية يوم الاثنين الماضي (27 أوت 2018) إلى عيادة بمدينة جنيف السويسرية لتلقي فحوص دورية وفق بيان لرئاسة الجمهورية كان هو الأول والأخير إذ لم تطلع للرأي العام بلاغات أخرى تروي ضمأه بشأن حالة الرئيس بوتفليقة الصحية، فيما دخلت على الخط مواقع أجنبية ترشح بقاءه بالعيادة السويسرية لمدة غير معلومة وقد تطول قبل أن يكذبها خبر عودة الرئيس بوتفليقة إلى أرض الوطن. وبالموازاة مع حالة القلق التي أشرنا إليها، يستعد البرلمان لافتتاح دورته الثانية للفترة التشريعية الحالية غدا فيما يزاول أعضاء الحكومة أنشطتهم العادية، حيث كانت نجمة الأسبوع وزيرة البيئة والطاقات المتجددة فاطمة زرواطي التي خرجت في غزوة ضد الأوساخ متقدمة الصفوف، بينما أعلنت بن غبريط حالة تأهب قصوى لمنع الكوليرا من اجتياز عتبة أبواب المدارس بعدما طمأن وزير المياه المستهلكين حول خلو ماء الحنفيات من أي أذى يلحق بهم.
على الجبهة الاجتماعية توحي الإشارات التي تعطيها الحكومة والنقابات بإرادة مشتركة للحكومة والشركاء الاجتماعيين لدخول اجتماعي هادئ يسمح للسنة السياسية أن تمر في سلام إذا لم يظهر ما يعكرها في مرحلة أخرى بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الصعب والمتقلب وسط تقلبات الأسواق الدولية وعدم توفر المؤشرات الكافية على تحسن التوازنات المالية. هذا هو حال الجزائر اليوم وهي تتأهب لعبور عام شائك ومعقد، وهو ما يجعل متابعة المحللين لمآلات الأحداث صعبة، وما يضع الوضع مرشحا على كل المعطيات.
احسن خلاص