اختار الناخب الفرنسي، أول أمس، الخروج عن المألوف حيث أفرزت نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية في فرنسا فوز الثنائي رئيس حزب فرنسا إلى الأمام إمانويل ماكرون بنسبة تفوق 23 بالمائة ومنافسته رئيسة الجبهة الوطنية ماري لوبان بأكثر من 21 بالمائة وهي النتيجة التي تفتح عهدا جديدا على الفرنسيين وشركائهم لم يألفوه منذ نشوء الجمهورية الخامسة عام 1958.
وتنظر أوساط مراقبة للشأن السياسي الفرنسي أن انتخابات الرئاسة هذه المرة تعتبر شبه قطيعة مع الخارطة السياسية التقليدية التي ألفها العالم الذي لم يعرف للتداول على السلطة في ظل الجمهورية الخامسة إلا بين يمين ويسار تقليديين تفرعت عنهما نزعات متطرفة كاستثناءات تؤكد القاعدة.
غير أن ما أصبح عليه الفرنسيون أمس يعتبر هزة سياسية بامتياز تفوق شدتها تلك التي عرفتها انتخابات الرئاسة في 2002 حين أفرزت في الدور الثاني الرئيس الأسبق جاك شيراك ومنافسه اليميني المتطرف جان ماري لوبان وصار التوافق السياسي يفرض نفسه فرضا على الطبقة السياسية لمواجهة خطر اليمين المتطرف في ذلك الوقت.
وها هو السيناريو ذاته يتكرر، مع اختلاف هام هذه المرة، وهو أن الخارطة التقليدية تجاوزها الزمن لتفسح المجال لثنائية جدلية جديدة محورها الانفتاح أو الانغلاق على المحيط الدولي وعلى أوروبا بالتحديد. وهي الثنائية التي ولدتها التطورات التي حصلت في أوروبا والعالم ومست فرنسا في الصميم.
أول هذه التطورات البركسيت أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي الذي ألقى بضلاله على أحد المؤسسين الرئيسيين للاتحاد الأوروبي وهو فرنسا فقد أعطت منهجية بريطانيا في عملية الانفصال للفرنسيين الإشارة إلى أنه بإمكان فرنسا التخلص من العبء الأوروبي دون خوف على عواقب وخيمة على توازن الاقتصاد الفرنسي من جراء أي محاولة للتخلص من أوروبا وقد ركبت ماري لوبان الموجة ووعدت في حملتها الانتخابية باستفتاء الفرنسيين بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي في حين دافع الجميع على أوروبا وألبسها لباسه الإيديولوجي.
وثاني التطورات التي ولدت هذه الثنائية موجة التطرف والإرهاب التي كانت فرنسا مسرحا لها وكانت آخر تمظهراتها العملية الإرهابية التي جرت في الشانزيليزيه وكأن إنتاج هذه الثنائية كان أمرا مقصودا لإبعاد منافسين آخرين لماكرون مثل ميلانشو أو بدرجة أقل فرانسوا فيون وكأن هناك يدا تدخلت لتوجيه الناخب الفرنسي إلى هذه الثنائية. فقد خيم ظل التطرف على الانتخابات الرئاسية بقوة هذه المرة والتفجيرات والعمليات التي عرفتها فرنسا في السنتين الأخيرتين أكدت أيضا فشل الطبقة السياسية الحاكمة في فرنسا في وضع حد لاجتياح الإرهاب لفرنسا وأوروبا وهناك من يربط الظاهرة بالاتحاد الأوروبي وحركة التنقل الحرة والواسعة داخل أوروبا التي جعلت توسيع دائرة الخطر إلى فرنسا أمرا ممكنا بل أكيدا.
لكن يبدو أن الخاسر الأكبر في هذا الموعد الجديد هو اليسار بشكل عام والاشتراكيين بشكل خاص، حتى مع بروز نجم ميلانشو إلا أن الحزب الاشتراكي كانت نتائجه كارثية مع بنوا هامون الذي لم يتعد نسبة 6 بالمائة وهي النتيجة التي تظهر ما آل إليه هذا الحزب من تدهور وفقدان للبريق الذي ذهب مع ذهاب بريق فرانسوا هولاند الذي ترى لوبان أن ماكرون هو الوريث الحقيقي له في محاولة لإظهار نفسها كبديل لسياسات هولاند الفاشلة حسب ما أظهرته استطلاعات الرأي.
ويعد ماكرون الوجه المختلف الذي اكتشفه الفرنسيون وتبنوه بالرغم من عدم امتلاكه لخبرة سياسية بحيث لم يسبق له أن انتخب في أية هيئة سياسية محلية أو وطنية وأنه جاء من عالم الأعمال ومن الأوساط التابعة للمحيط المالي الأمريكي ومن أشد المدافعين عن إقامة علاقة صداقة قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية فهو حليف العم سام بامتياز. ولا يناهض ماكرون النزعة الاستقلالية للوبان فحسب إنما أظهر، دون أن يعلن، القطيعة مع النزعة الديغولية التقليدية من جانبين هما الاقتراب من الناتو من جهة ومن الجزائر من جهة أخرى حيث كان المرشح الوحيد الذي اعتبر الاستعمار الفرنسي للجزائر جريمة ضد الإنسانية دون الذهاب بعيدا نحو فكرة الاعتذار. ولأن الرجل عرف كيف يغادر الطاولة في حكومة هولاند فقد كسب استقلالية مكنته من أن يكون البديل الذي اقترحه عالم المال والأعمال الدولي والنظام العالمي الجديد.
سيكون الدور الثاني فرصة للفرنسيين لفتح نقاش عميق حول هوية فرنسا القادمة وقد يفضي إلى فتح الباب لميلاد الجمهورية السادسة.
احسن خلاص