انتهى عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد 20 عاما، قضاها في الحكم، قضى ستة سنوات منها على كرسي المرض، وسيكتب التاريخ أن نهايته لم تكن كنهاية سابقيه من رؤساء الجمهورية الجزائرية، حيث يعتبر أول رئيس للدولة منذ الاستقلال أوقف طموحه السياسي حراك شعبي سلمي انفجر في جمعة 22 فيفري 2019، ليضع الجزائر على سكة سياسية أخرى في ستة أسابيع فقط.
عاد عبد العزيز بوتفليقة من المنفى الاختياري عام 1999 لتسيير بلاد تئن تحت أزمة أمنية خانقة وصراعات شديدة على مستوى أعلى هرم السلطة وواقع اقتصادي متأزم ومعاناة اجتماعية امتدت لأكثر من عقد بعد انهيار سعر برميل النفط، وتدخلات صندوق النقد الدولي، ليذهب اليوم تحت ضغط الشارع، تاركا البلاد تقريبا في نفس الوضعية التي وجدها نهاية الألفية السابقة.. غير تحسن في الوضع الأمني الداخلي منح الجزائريين مناعة وقتهم من اضطرابات الإقليم الغارق في فوضى الربيع العربي.
عاد بوتفليقة إلى الجزائر بدعوة من كبار رجال النظام آنذاك، فبعد استقالة الرئيس السابق اليامين زروال المفاجئة في سبتمبر 1998 من دون إكمال عهدته الدستورية وتسارع الأحداث داخليا تحركت النواة الصلبة في السلطة لتجنيب دخول الدولة في فراغ دستوري مثلما حصل في بداية التسعينات مع استقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، فعاد وزير خارجية بومدين عبد العزيز بوتفليقة إلى الواجهة السياسية، بعدما قطع الصحاري والفيافي لمدة 20 عاما، مدعوما بأحزاب السلطة التقليدية على رأسهم جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي والإتحاد العام للعمال الجزائريين.
“مرشح الإجماع” كما وصفته الجهات الرسمية آنذاك، لم يستطع إكمال الانتخابات الرئاسية عام 1999 مع منافسين من حجم الراحل حسين آيت احمد ومولود حمروش ويوسف الخطيب وآخرين بعد اتهامهم النظام بالتزوير القبلي والبعدي للانتخابات لصالح المرشح “القوي” المرشح الحر عبد العزيز بوتفليقة، وانسحابهم ليلة الاقتراع ولكن بوتفليقة العازم على العودة بقوة لم يرض بأن يكون رئيسا للجمهورية بنسبة أقل من التي تحصل عليها الجنرال اليامين زروال، فقال أمام الملأ بأنه “لن يقبل بأن يكون ثلاثة أرباع رئيس”، ليمسك بصلاحيات دستورية واسعة بعد تعديله دستور 1996 وفتحه باب العهدات الرئاسية للبقاء أطول وقت في السلطة.
مرّ حكم الرئيس بوتفليقة من أفريل 1999 إلى أفريل 2019 بعدة محطات سياسية مهمة طبعت الشأن الوطني في ظل تغيرات إقليمية كبيرة عرفتها المنطقة، لكن النظام الجزائري لم يتغير كثيرا لا في أساليبه ولا في أدوات الحكم التي اعتمد عليها منذ الاستقلال في تسيير بلد كبير بحجم الجزائر، بلد يتميز بخيرات وطاقات طبيعية وبشرية كبيرة كان بإمكانها لولا الفساد وسوء التدبير أن تضع الجزائر في سكة النمو والتطور والرخاء الاقتصادي، ولكن بوتفليقة الذي وعد الجزائريين بأربع وعود كبيرة عبر عليها في أول ندوة صحفية بعد إعلان النتائج لرئاسيات 1999 قائلا: “أولا سأخمد نار الفتنة، ثانيا سأُنعش الاقتصاد الجزائري، ثالثا سأعيد الكرامة للجزائريين، رابعا سأعيد للجزائر مكانتها بين الأُمم”، يخرج اليوم من قصر المرادية ويقال الكثير والكثير حول ما تحقق وما لم يتحقق خاصة من ناحية الإنعاش الاقتصادي والبناء الديمقراطي المؤسساتي للدولة.
• الوئام المدني والمصالحة الوطنية
كانت أبرز أهداف الرئيس بوتفليقة بعد استلامه مقاليد الحكم، إكمال المشروع الذي بدأه سلفه زروال الذي أقر قانون “الرحمة” في إطار معالجة الأزمة الأمنية المستفحلة منذ بداية عقد التسعينات، فكان لا بد من الرئيس الجديد الشروع في تنفيذ وعوده التي قطعها أمام الشعب، أولها إطفاء ما وصفها بـ”نار الفتنة” بتمرير قانون الوئام المدني عبر غرفتي البرلمان ليمهد بذلك الطريق للاستفتاء على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في العهدة الثانية عام 2005 وهو الميثاق الذي جرى الاستفتاء عليه في 29 سبتمبر 2005، وقد حصل خلاله على موافقة بنسبة 97%، من أصوات الناخبين وتم تنفيذ الميثاق بوصفه قانونا في 28 فيفري 2006، وبموجبه أغلقت الدولة الأبواب بإحكام على “العشرية السوداء” التي سقط إبانها مئات الآلاف من الجزائريين تحت ضربات الجماعات الإرهابية.
• الربيع الأسود
اصطدم الرئيس بوتفليقة في بدايات حكمه بأزمة شديدة عام 2001 في منطقة القبائل أي بعد عامين من تسلمه مقاليد الرئاسة، وهو ما عرف آنذاك بـ”الربيع الأسود”، انتهت هذه الأحداث المأساوية بدسترة اللغة الأمازيغية لأول مرة كلغة وطنية، لترسم لاحقا في التعديل الدستوري لعام 2016.
• تعديل الدستور عام 2008
تبنت الغرفة السفلى للبرلمان في العام 2008 تعديلا دستوريا يلغي تحديد الولايات الرئاسية باثنتين، مثلما نص بذلك دستور 1996، ليسمح لبوتفليقة بالترشح لعهدة ثالثة ورابعة وبالتالي البقاء في السلطة على نفس منوال الرؤساء العرب، رغم معارضة سياسية لمشروع التعديل إلا أن بوتفليقة اعتمد على أحزاب التحالف الرئاسي صاحبة الأغلبية البرلمانية لتمرر طموحات الرئيس بكل ثقة.
• بداية المشاكل الصحية
بدأت المشاكل الصحية للرئيس بوتفليقة بين شهري أفريل وجويلية 2013، حيث تعرض لجلطة دماغية، دخل إثرها مستشفى “فال دوغراس” في باريس لمدة 80 يوما، ولكن هذا لم يمنعه بدعم كبير من محيطه في ترشيحه لعدة رئاسية رابعة وفي 17 أفريل 2014، أعيد انتخابه بنسبة 81,49 في المئة من الأصوات، لعهدة جديدة، حيث أدى اليمين الدستوري على كرسي متحرك.
• إعادة هيكلة جهاز المخابرات
بدأت العهدة الرابعة للرئيس بوتفليقة بزلزال كبير داخل أركان النظام، تمثل في إحالة رئيس دائرة الاستعلامات والأمن (جهاز المخابرات) سابقا الفريق محمد مدين (توفيق) على التقاعد، في نهاية سبتمبر 2015، بعد 25 عاما قضاها في إدارة الجهاز الأمني، ليعين خلفا له اللواء بشير طرطاق في إطار هيكلة جديدة للجهاز.
• الحراك الشعبي وسقوط العهدة الخامسة
لم تكن أحزاب التحالف الرئاسي الأربعة (الأفالان، الأرندي، تاج، الحركة الشعبية الجزائرية) تنتظر بعد إعلانها ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة رغم حالته الصحية التطورات الدراماتيكية التي أوقفت مشروعها الذي بنت عليه سياستها لما بعد رئاسيات 2019.
وفي العاشر من فيفري الفارط، أعلن عبد العزيز بوتفليقة أنه سيترشح لولاية رئاسية خامسة، خلال الانتخابات التي كانت مرتقبة في 18 أفريل، لكن في 22 من الشهر ذاته، وقبله، خرج عشرات آلاف الجزائريين إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة لم تشهدها البلاد منذ الإستقلال، استجابة لدعوات ناشطين عبر وسائط التواصل الاجتماعي، رفضا لولاية خامسة لبوتفليقة، وتم تنظيم مسيرات سلمية قوية في العاصمة التي كان يمنع فيها مجرد التجمع بمرسوم حكومي صدر عام 2001.
في 11 مارس، أعلن الرئيس بوتفليقة في رسالة عدوله عن الترشح لولاية خامسة، وإرجاء الانتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى، وتمت استقالة حكومة أحمد أويحيى الذي استبدل بوزير الداخلية نور الدين بدوي. ولكن مع تسارع الاحتجاجات لأسابيع عديدة ودخول عدة قطاعات مهمة في إضرابات متتالية، خرجت المؤسسة العسكرية عن صمتها حيث اقترح رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق قايد صالح في 26 من الشهر نفسه، مخرجا دستوريا للأزمة يتمثل في تطبيق المادة 102 من الدستور التي تحدد إجراءات إعلان “ثبوت المانع” لرئيس الجمهورية واستحالة ممارسة مهامه.
• الاستقالة
رفض المجلس الدستوري التحرك وبروز صراعات الأجنحة داخل النظام، اجتمعت القيادة العليا للمؤسسة العسكرية يوم 2 أفريل الماضي، لتطالب بالتطبيق الفوري للمادة 102 من الدستور.. حتى قدم الرئيس بوتفليقة بساعات قليلة ورقة استقالته لرئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز بحضور رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح ونقلت الصور نشرات التلفزيون الحكومي.
إسلام كعبش