صدر للمفكّر والبروفيسور محمد شوقي الزّين المجلّدان الأوّل والثاني من مشروع “نقد العقل الثقافي” عن دار الروافد الثقافية وابن النديم، قام بتقديمها الدكتور محمد بكاي.
في الجزء الأوّل من كتاب “نقد العقل الثقافي” المخصّص “لفلسفة التكوين وفكرة الثقافة: أساسيات البيلدونغ”، يواصل الـمفكّر مـحمّد شوقي الزّين الانكباب على فكرة الثقافة والغور داخل استعمالاتها، لجسّ نبض همومها الفلسفية والوجودية. تراهن فكرة البيلدونغ على موقف الإنسان “في” الـعالم، لتكون هذه الفكرة علّة مباشرة لمباحث الثقافة في طيّات هذا العمل، حسب تقديم محمد بكاي-، الذي اعتبر أن “نقد العقل الثقافي” هو كتاب حيويّ وشغوف بأشكال الحياة والكينونات ومـمارسات الثقافة، مهتمّ بما قدّمته الثقافة الألمانية (مع هردر وشيلر وكاسيرر وهومبولت وهيغل ونيتشه…). والكتاب في بابه أصيل؛ إذ ينفرد المجلّد الأوّل من مشروع “نقد العقل الثقافي” عن بقية المصنّفات في فلسفة الثقافة للحفر بعمق في مفردة البيلدونغ الألمانية، حيث الكائن في تطوّر طبيعي وروحي. تَـــفْصِل فكرة البيلدونغ كمبدأ مكوّن بين المعرفة والسلوك، فهي تتجاوز الأنساق الـمعرفية وشبكاتها التجميعية إلى سُبل “نحت الذّات” وتشكيلها وتهذيبها.
ويُقدّم الكتاب رؤى نبيهة لتحوّلات هذا التصوير أو التشكيل (نظام القيمة) الحاملة لقيم روحية وجمالية، يجنّد فيها أدوات أنتروبولوجية وسوسيولوجية وهيرمينوطيقية لتوليد أو ابتكار معجميّة نقدية ثقافية متميزة (التبرية، الثقاف، الثّقف،…)، وهو ما يعكسه تفلسف النابغة المثير لدهشة القارئ، مضيفا أن الكتاب عبارة عن “سريان تكتيكي” يسافر إلى أقاليم الشّكل والصّورة، مفجّراً سيلاً من الإشكالات المتصلة بعلاقة الصّورة بالدّيني والمقدّس والتباساتها الفلسفية في الثقافتين المسيحية والإسلامية. كما يستقطب بمهارة وإتقان أشكال تـمظهر الثقافة وتجليّات التربية الجمالية للإنسان، وينغمس في الطّبع البشري الذي يتحوّل ويتغير ويتأهّب ويتهذّب وينزاح نحو المناطق الخلاّقة، فالتحوّل هو مصير الذوات، وما “البيلدونغ” إلاّ فكرة تنبئ بذكاء عن التحوّلات الصّامتة والصّاخبة -في آن معا- لـما يمسّ صميم ذواتنا.
وبخصوص المجلد الثاني فقد جاء في تقديمه، أن الجزء الثاني من كتاب “نقد العقل الثقافي” الـمخصّص لـ “رؤية الـعالَم ونظام الثقافة، بنية الثقاف”، يمثل تنقيبا جادّا ودقيقا ومختلفا لمبحث الصّورة، يراهن فيه محمد شوقي الزين على ما هو عليه العالم (الظاهر، الـموضوع، الـمرئي)، ويبحث في العالم عن فجوات يتسلّل منها النّظر. يلج هذا الكتاب معترك التأويل الثقافي، كاشفا عن تناهي الرؤية البشرية ومحدوديتها، سَالكاً سبيله صوب رؤية غير مستوفية، نسبية ومؤقّتة. بين دفّتي هذا المجلّد مباحث آيلة إلى تقصّي الـمجهول الذي يختبئ في عالم مرآوي أو ضمن بُعدٍ غيابي ومنطق طيفي وبرزخي، أي لا تقطع فصول هذا الكتاب الحبل بين الظاهر والباطن، بين المرئي واللاّمرئي، بين الـمسمّى واللاّمسمى. عبر هذا الجزء يكشف محمد شوقي الزين عن تجربة تأويلية فذّة، عمل جليل يغور بشغف تحليلي ودهاء قرائي إلى الرّؤية بالبسط والقبض، ليُقدّم لنا فلسفة للرؤية منفلتة من إكراهات الايديولوجي، ينجلي فيها العالم ليكون منكشفا للرّؤية، وتنكشف فيه الرؤية للعالم.
ويمثّل -حسب تقديم محمد بكاي- هذا المجلد صدارة معرفية في “فقه الصّورة”، يجمع فيه -وبشعرية فلسفية لا نظير لها- شتات هذا الهم المعرفي من الاعتبار اللاّهوتي إلى الاعتبار الأيدولي، من مباحث الإغريق إلى هموم العولمة والعوالم الافتراضية، مرورا بمقولات الكنيسة وعصر الأنوار وآراء أهل العرفان. بين النظري والعملي، تتفتّق تأملات نقد العقل الثقافي لتبدي تفاني الـمؤلّف في شدّ انتباه القارئ واستدراجه إلى أسئلة حاسمة: “هل بالفعل يراني العالم؟ وما معنى أن يراني العالم؟”. فهذا الكتاب بيان فلسفي يفيض ثراء في استجلاء مبحث لم يتشبّع معرفيا في عالمنا العربي. فبين الكشف والحجب، يشدّنا الكتاب ويُدهشنا، ويُواصل محمد شوقي الزين في سفره مهاراته النصية التي لا تخلو من التفكيك والتّسبيك، والتّشابكات اللغوية والتشابهات المرئية.
ص ك