الجمعة , مايو 3 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / الاقتصاد / وسط مقاربات ونماذج متعددة:
كيف السبيل إلى مدينة جزائرية ذكية

وسط مقاربات ونماذج متعددة:
كيف السبيل إلى مدينة جزائرية ذكية

يوسف بوشريم

تجدر بنا الإشارة في البداية إلى بعض التحولات التي عرفتها المدن عبر الزمن والعراقيل التي واجهت التنمية في جميع المجالات وجعلت إيجاد حلول مناسبة من خدمات ومناخ بيئي ملائم للعيش بالمدينة أمرا صعبا على أي مسئول في أي مدينة.

وإذا تمعنا في الإحصائيات المتعلقة بالمدن وتطور النمو الديمغرافي بها فإننا نلاحظ أن نسبة قاطني المدن انتقلت من 29% في سنة 1950 إلى حوالي 50% في سنة 2007  لتتجاوز حاليا 55%. وحسب معدل التطور الذي أعدته هيئة الأمم المتحدة فإن نسبة قاطني المدن ستبلغ 61% مطلع 2030 بل ستصل إلى 75% في سنة 2050. هذه التغيرات السريعة والهائلة تضع القائمين على تسيير المدن في مختلف أرجاء العالم أمام تحديات حقيقية خاصة إذا علمنا أن المدن تحتل فقط 2% من إجمالي مساحة المعمورة وأن 55% من عدد سكان المعمورة يقطنون فيها وأنها تستحوذ على 75% من الطاقة العالمية المستهلكة وأنها مصدر لـ80% من حجم ثاني أكسيد الكاربون في الجو.

وتسبب الكثافة السكانية في المدن مشكلات عديدة يفقدها التوازن حيث يزداد الاكتظاظ في الشوارع والطرقات واختناق في حركة المرور داخل وخارج المدينة كما تؤدي إلى استهلاك مفرط  للطاقة بصفة عامة يفوق قدرات المدينة في إنتاجها وتوزيعها. وكما تسبب مشكلات في تسيير النقل العمومي والخاص داخل المدينة مع الصعوبات اليومية لإيجاد مواقع لركن السيارات مما يحدث اختلالات في احترام المواعيد وضياع الوقت حيث يزيد من نسبة الأمراض المزمنة كالسكري والضغط الدموي نتيجة طول الانتظار والاختناق الدائم في حركة المرور.

ويجري التفكير في كبريات المدن العالمية يوميا حول أفضل السبل للخروج تدريجيا من التسيير التقليدي للمدن من خلال ابتكار أفكار جديدة تكون فيها التكنولوجيا أساس التحول وقدرات عقلية جديدة تتحكم في التقنيات العصرية حيث يجب أن تدار المدن بطريقة الكترونية من خلال رقمنة جميع مؤسساتها وزرع كاميرات وملتقطات في مختلف أرجائها لتسهيل عملية تسيير المدينة في ما أصبح يسمى المدينة الذكية.

ولا توجد مدينة ذكية إلا بوجود عناصر أساسية ذكية تكونها من حكومة ومؤسسات ومواطنين في تكامل مدروس بينها وإشراك للجميع. ويمكن تقريب الصورة للقارئ من خلال تشبيه المدينة الذكية بجسم الإنسان، فالإنسان يملك 5 حواس ترسل المعلومات عن طريق الشبكة العصبية إلى الدماغ الذي يقوم بدور تخزين وتحليل المعلومات ثم يتخذ من خلالها قرارات. ويمكن تشبيه الحواس الخمس بالكاميرات والملتقطات كما يمكن تمثيل الشبكة العصبية بشبكة الاتصال والانترنات والدماغ بمراكز البيانات ومراكز العمليات وبهذا نكون أمام المكونات الأساسية التي تصنع المدينة الذكية.

وتتم في المدينة الذكية مراقبة الطرقات والطقس وشبكات الكهرباء والمياه وقنوات الصرف الصحي وشبكة المواصلات وأماكن ركن السيارات والأماكن العامة والمؤسسات بمختلف أنواعها عن طريق معلومات وصور تستقبلها مراكز عمليات ورقابة المدينة في حينها ليتم معالجتها وإحصائها بطريقة آلية في ظرف وجيز جدا لتسهيل اتخاذ القرارات في توجيه المواطنين وتحسين الخدمات والبيئة المعيشية.

ويتطلب الكم الهائل من المعلومات التي يتم استقبالها من جميع إنحاء المدينة توفر جملة من الشروط التي تتعلق بالتكنولوجيا في حد ذاتها ومن بينها:

الشبكات

يتطلب إرسال واستقبال هذا الكم الهائل من المعلومات والبيانات شبكة عصرية موصولة بالألياف البصرية والويفي في جميع أرجاء المدينة ولا يمكن بآي حال من الأحوال استعمال الخطوط النحاسية لعدم تحملها الكم والسرعة المطلوبتين لهذا النوع من التكنولوجيا.

التدفق السريع

يمكن لأي تأخر في وصول أي معلومة من أي كاميرا أو ملتقط  أن يتسبب في خلل مزعج لسير وتسيير المدينة فعدم وصول معلومة لعطب في شبكة توزيع الكهرباء من الممكن أن يعطل حركة سير المدينة ويشلها تماما فيجب توفير النطاق العريض والتدفق السريع لتيسير إرسال واستقبال المعلومات في التوقيت المطلوب.

مراكز تخزين البيانات “data center”

لا يمكن لمحطات التوزيع (serveurs ) الموجودة حاليا في مختلف المؤسسات استيعاب الكم الهائل من المعلومات والبيانات ولا يمكن تخزينها ولا فحصها ومن هنا يجب أن تتوفر المدينة على مراكز تخزين البيانات ذات الحجم الكبير يتم تركيبها وتوزيعها في مناطق آمنة من المدينة ومراكز مراقبة ومراكز عملياتية تعمل 24/24 ساعة وفي كل أيام الأسبوع.

التشريعات الضابطة

هذا النوع من المعلومات والبيانات الالكترونية تتطلب منظومة تشريعية تتماشى والتطور التكنولوجي المتسارع بشكل رهيب، فكما توجد جريمة عادية توجد جريمة الكترونية وكما أن هناك سرقة عادية هناك سرقة معلوماتية وكما أن هناك ملكية عامة وخاصة عادية هناك ملكية خاصة وعامة اليكترونية وبالتالي يجب تحضير التشريعات اللازمة لحماية المدينة وسكانها والمحافظة على الأملاك الخاصة والعامة.

النظام البنكي

يتعلق الأمر هنا بالنظام البنكي بصفة عامة وليس البنوك في حد ذاتها حيث يتطلب وجود منظومة بنكية أفقية عصرية تتميز بالعمل التنظيمي للعمليات التجارية والمالية بين المواطنين والشركات والمدينة ومختلف البنوك التي يتعامل معها كل واحد منهم وتجهيز الدفع الالكتروني والتجارة الالكترونية والدفع عن طريق الهاتف النقال ومختلف التقنيات التي يمكن بموجبها تسهيل هذه العملية.

الأمن المعلوماتي

وتبرز ضرورة تأمين هذا الكم الهائل من المعلومات والبيانات ومختلف الأشياء الموصولة بالانترنات والمؤسسات ومراكز تخزين البيانات والملتقطات والكاميرات. وتعمل مختلف مدن العالم على إنشاء مراكز وهيئات خاصة بأمن المعلومات للحد من القرصنة الخارجية تلعب دورا هاما في التوعية خاصة داخل المؤسسات ومختلف العناصر المكونة للمدينة وتدريب العمال والساهرين على مختلف الهيئات على طرق التعامل مع القرصنة وسبل الوقاية منها لأن أغلب الناس يعتقد أن عملية القرصنة تأتي من خارج المدينة ولكن الواقع نجد أن 20% فقط من عمليات القرصنة تأتي من خارج المدن والمؤسسات و80% منها تأتي من داخل المدينة أو المؤسسة عن طريق الخطأ أو عن قصد.

من هنا فإن نجاح مشروع أي تحول من مدينة تقليدية إلى مدينة ذكية يتطلب المرور من محطات ثلاث:

أولا: الاستعانة بالكفاءات وذوي الخبرة والمعرفة في هذا المجال واستغلال طاقات الابتكار التي يتمتعون بها.

ثانيا: توفير الأدوات اللازمة لذلك من شبكات وتدفق عالي ومنظومة بنكية وتشريعات ونظام تأمين عصري.

ثالثا: آليات التسيير والحوكمة العصرية لتطبيق المشروع وتحديد مراحل تنفيذه بحيث تكون قابلة للقياس في المكان والزمان لتسهيل عملية المراقبة وتسيير المرحلة الانتقالية للمدينة بإحكام.

في سبيل مقاربة جزائرية

في الترتيب العالمي للمدن الذكية والذي يعده مركز أبحاث جونيبر البريطاني والذي يعتمد أساسا على أكثر من 40 مؤشرا بما في ذلك اعتماد تقنيات الشبكة والتدفق العالي والإضاءة الذكية واستخدام تكنولوجيا المعلومات لتحسين حركة المرور ونقاط توزيع الويفي ومعدل  استعمال الهواتف الذكية والتطبيقات المستخدمة لتسهيل الخدمات …الخ.

وقد احتلت سنغافورة المرتبة الأولى عالميا وجاءت مدينة برشلونه الإسبانية في المرتبة الثانية وتلتها مدينة لندن البريطانية في المرتبة الثالثة ثم مدينة سانفرونسيسكو الأمريكية في المرتبة الرابعة ومدينة أوسلو النرويجية في المرتبة الخامسة.

فيما رتبت العاصمة الكينية نايروبي من بين المدن ال20 الأوائل عالميا والمرتبة الأولى إفريقيا وكأول مدينة ذكية في إفريقيا ليس هذا فحسب بل تفوقت على مدن كبرى في أوروبا وأمريكا.

سنغافور..الرقمنة أسلوب المدينة

ونلاحظ أن سنغافورة، المدينة التي تبلغ مساحتها 719 كم مربع ويقطنها أكثر من 5.5 مليون نسمة تفوقت على كبرى المدن العالمية كنيويورك ومونتريال وباريس وبروكسل وبرلين بفضل الإرادة السياسية القوية التي تبنت الرقمنة كأسلوب لعصرنة المدينة. فقد أعلن رئيس وزرائها حسين لونغ عن إطلاق برنامج الأمة الذكية ومنذ أواخر سنة 2014  صار تسعة من عشرة مواطنين سنغافوريين موصولين بالانترنت عالي التدفق وأكثر من 85% من سكانها يملكون هواتف ذكية كما تم استغلال التكنولوجيا الحديثة في رقمنة أغلب مؤسساتها وخاصة الخدمات الإدارية للمدينة. ولم يبق لسنغفورة لكي تتحول إلى مدينة ذكية سوى التركيز على كيفية تخفيض نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الجو حيث تم إعداد خطة متوسطة المدى لتخفيضه إلى 36% مطلع 2030 والتخلص من الازدحام في حركة المرور بالمدينة بتحسين النقل العمومي حيث جعلته مجانيا خلال الساعات الباكرة بين السادسة والسابعة صباحا وفرضت أسعارا مرتفعة بعد هذا التوقيت حيث نجحت في خطتها وأصبحت أغلب الطرقات شبه خالية في ساعات الازدحام التقليدية بين الثامنة والتاسعة صباحا حيث غير معظم السكان في عاداتهم للذهاب إلى العمل بطريقة آلية.

أما فيما يخص خدمات الطاقة وتوزيع المياه فقد لجأت سنغافورة لاعتماد ضريبة مرتفعة للذين يستهلكون أكثر من مستوى معين تم تحديده بنسبة الاستهلاك في الحي ويتم إدراج اقتراحات للمواطنين على الفواتير الشهرية تحثهم على معدل استهلاكهم الشهري بالمقارنة مع جيرانهم حيث خلق نوع من التنافس في ترشيد الاستهلاك ونجحت في تخفيض نسبة استهلاك الطاقة والماء بأكثر من 35% وأصبحت هذه المدينة اليوم بإمكانها معرفة ما إذا كان الناس يدخنون في الأماكن غير المسموح بها و معرفة من يرمي القمامة في غير مكانها المناسب. هذه بعض من المميزات التي جعلت سنغفورة تفتك المرتبة الأولى عالميا كأحسن مدينة ذكية بجدارة واستحقاق.

نايروبي..التكنولوجيا كمخرج من الأزمات

أما مدينة نايروبي عاصمة كينيا، النموذج الإفريقي للمدينة الذكية فتتربع على مساحة قدرها 696 كم مربع يقطنها حوالي 3.2 مليون نسمة، افتكت المرتبة الأولى إفريقيا ومن بين ال20 عالميا بفضل الإرادة السياسية القوية بعد التحول الديمقراطي الذي عرفته كينيا سنة 2007 والتي تبنت التكنولوجيا كمخرج لأزماتها المختلفة عن طريق وزيرها لتكنولوجيا المعلومات والاتصال ولعلمه أن كينيا محدودة ماديا لتحديث الشبكات وربطها بالألياف البصرية تم اعتماد المنافسة بفتح الباب أما شركات خاصة لمنافسة المتعامل التاريخي لكينيا واستقطاب شركات أجنبية لبعث شبكة الهاتف النقال. وانطلاقا من ذلك وفي ظرف وجيز انتقلت كينيا إلى بلد رقمي بامتياز حيث بلغ معدل سرعة تدفق الانترنت 15 ميقابايت سنة 2016  فيما بلغ معدل السرعة الإفريقي 4.3 ميقابايت متفوقة على بلدان أروبية. كما أن 67% من الكينيين موصولون بالانترنات عالي التدفق فيما بلغ المعدل الإفريقي 18% فقط.

وقد سهلت كل هذه العوامل على مدينة نايروبي استخدام العدادات الذكية في شبكة توزيع المياه وتم تعميم عملية الدفع بواسطة الهواتف الذكية عن طريق تطبيق M-Pesa حيث يستخدم هذا النوع من الدفع أكثر من 85% من سكان المدينة كما تم استخدام تقنية ذكية في أماكن ركن السيارات والتعليم الذكي بمدارس العاصمة الكينية حيث أصبح أكثر من 50% من إجمالي الدخل العام للمدينة مصدره الخدمات الالكترونية. وتم إعداد خطة من طرف القائمين على قطاع  التكنوجيا في كينيا بقيادة جوزيف موشيرو لجعلها دولة حديثة التصنيع في مطلع 2030.

مقاربات

بعد التعرف على نموذجين هامين من نماذج المدن الذكية يمكن القول إن كل قارة تعتمد على عناصر مختلفة لتحويل مدنها إلى مدن ذكية تتحكم فيها عوامل بيئية ثقافية دينية حسب طبيعة سكانها ونظام تسييرها بصفة عامة… حيث أن المقاربات الأوروبية مثلا ترى أن التحدي التكنولوجي في رقمنة المؤسسات والذكاء الاصطناعي واستعمالهما في مختلف الخدمات بالمدينة هو أساس التحول إلى المدن الذكية على عكس النموذج الآسيوي الذي لا يٌطرح مشكل التكنولوجيا أساسا لأن هذه القارة خطت خطوة عملاقة في التطور التكنولوجي بل تهتم فقط بكيفية إدارة الخدمات وتخفيض كلفة استهلاك الطاقة وتخفيف حركة المرور إلى غير ذلك. ومن جهتها، تعتمد مقاربة أمريكا الجنوبية على الحد من الجريمة والسرقة والأمن وتحسين الخدمات ورقمنة الحكومة كتحديات أساسية للتحول إلى مدن ذكية.

فيما تعتمد المقاربة الإفريقية على البنيات التحتية والشبكات والدفع الالكتروني والنظام البنكي الالكتروني وتحسين المستوى التعليمي والأمن كتحديات أساسية لتحويل مدنها إلى مدن ذكية.

من أجل مقاربة جزائرية

ويمكن أن نخلص من استعراض هذه التجارب المتعددة إلى أنه من الأجدر ببلد مثل الجزائر أن يضع مقاربته الخاصة بدل استنساخ تجربة أخرى لا تتوفر شروط إعادة إنتاجها في الجزائر التي لها خاصيات ثقافية ومجتمعية وعمرانية تختلف عن المدن الأخرى في العالم

خبير دولي في تكنولوجيات الإعلام والاتصال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Watch Dragon ball super