شكّل الحراك الشعبي فرصة لطرح عدة تصورات في كيفية بناء الجمهورية الجديدة، وفي صيغة الخروج من المأزق الحالي عبر المرور الضروري على مرحلة انتقالية محددة تسبق مرحلة الانتخابات الرئاسية والعودة إلى الحياة السياسية الطبيعية، هذا الكم من النقاش الفكري لم تعرفه الجزائر قبل أشهر قليلة بسبب غرق الساحة الوطنية داخل بحر من اليأس السياسي وتغول قوى الموالاة على المشهد وتجذر أفكار “الستاتيكو” في الذهن الجمعي للجزائريين.
وجدت عدة شخصيات سياسية الحراك الشعبي الديمقراطي فرصة لإعادة إنتاج تحليلات وأفكار مهمة، تفيد الجزائر في هذه المرحلة التاريخية ومن خلالها يستطيع هؤلاء الشباب الباحثين عن نظام سياسي واجتماعي جديد صنع القطيعة النهائية مع الماضي، وتراث الفساد واللاعدل وغياب الحريات وانعدام دولة القانون والمؤسسات خاصة أن هذه الهبة الشعبية التي بدأت في 22 فيفري الماضي، فاجأت ليس فقط النظام السياسي ومكوناته وإنما حتى من يسمون بالمراقبين للشأن الجزائري نظرا للظروف الذاتية التي التصقت بالمجتمع الجزائري الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته بالوضع الذي تعيشه باقي مجتمعات دول ما يسمى بالربيع العربي، رغم أن هناك نوع من أوجه الشبه في بعض المسائل والتفاصيل، هذا الربيع الذي لم تلتحق به الجزائر عام 2011 لنفس الأسباب التي سجنت الجزائريين في بوتقة مغايرة عن محيطهم المغاربي وحتى العربي، كما صنعت من البلاد “استثناء” لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته ببقية دول الجوار.
استطاع الحراك من داخله إنتاج خطاب سيميولوجي فريد من نوعه، كما حمل عدة تصورات لا يكفي لجريدة كاملة للكتابة حولها، إضافة للصور والشعارات السياسية والثقافية والفنية الممتازة التي وظفها في سبيل إسماع صوت الجزائريين والجزائريات اللذين خرجو بالملايين لقول “لا” لمن أرادوا ممارسة الوصاية الأبوية عليهم والهيمنة على مصيرهم.. حتى أن البعض وصف ما يحدث منذ 22 فيفري بأنه يفوق الحراك بل إنه “ثورة ديمقراطية سلمية”.. وهناك من قال بأنها “ثورة الابتسامة” نظرا لأجواء البهجة والفرح والسلمية التي رافقته منذ البداية، حتى أن صحيفة “الفاينانشل تايمز” المرموقة في بريطانيا نشرت افتتاحية اعتبرت من خلالها الحراك الجزائري مثالا للعالم في كيفية الضغط الشعبي السلمي على الأنظمة غير الديمقراطية.
أعاد هذا الجو السياسي الديمقراطي، وجوه عديدة من المعارضة لطرح أفكارها وانشغالاتها وتصوراتها للمرحلة المقبلة، مستفيدة من المناخ الديمقراطي الذي يعيشه البلد منذ أكثر من شهر، بعد استعادة المواطنين للشارع وتحويله لفضاء انشغال عام، وقد حذر رئيس “الأرسيدي” السابق سعيد سعدي في مساهمة له من المخاطر المحدقة بهذا الحراك، الذي وصفه بـ”الثورة الديمقراطية” مستدلا بالثورات المضادة التي عرفها الجزائريون منذ ثورة نوفمبر 1954 وانتفاضة 5 أكتوبر 1988، ومن جهته، حث جمال زناتي، القيادي السابق في “الأفافاس” على ضرورة استمساك الحراك بثبات التلاحم وتوخي اليقظة والحذر في سبيل كسب رهان التغيير، كما أخرج الحراك رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش عن صمته ليؤكد أنه لا يطمح لأي منصب سياسي تحسبا للمرحلة الانتقالية، وأنه سيتكلم حينما يحين الوقت، بعدما سربت المعارضة اسمه كمرشح باسمها لقيادة “الهيئة الرئاسية” المقترحة، في انتظار موقف رئيس الجمهورية السابق اليامين زروال الذي يطرح اسمه مجددا ليكون في مشهد ما بعد بوتفليقة.
إسلام كعبش