الجمعة , مايو 17 2024
أخبار عاجلة
الرئيسية / الثقافة / قراءة نقدية للروائي الناقد جايلي العياشي: البعد الرمزي في قصة”عش أنت” للكاتبة آسيا رحاحلية

قراءة نقدية للروائي الناقد جايلي العياشي: البعد الرمزي في قصة”عش أنت” للكاتبة آسيا رحاحلية

 

ثمانية عشر قصة و قصة، جمعتها المبدعة آسيا في كتاب لـ 120 صفحة، تحت عنوان: سكوت إني احترق. من بينها وقع اختياري على قصة ( عش أنت )، ذكرتني هذه القصة بقصيدة رائعة للشاعر اللبناني بشارة الخوري، تحمل نفس العنوان،غناها الموسيقار فريد الأطرش في السبعينيات من القرن الماضي: (عش أنت إني مت بعدك…)، و قد نالت شهرة عربية كبيرة.

ثمة من العناوين ما يجعل النص يخلد لقرون، و منها ما يقتله و هو في قماطه. فاختيار العنوان يعني انتقاء التلقيح المناسب لضمان استمرارية حياة النص.

و لعلمي أن للعناوين دلالات، رحت أتساءل إن كانت الكاتبة تعمدت هذه الإحالة، أم أن طبيعة نصها و النزعة الرومانسية الصاحبة له، هما ما أحالها عنوان نصها على عنوان نص سابق، علما أن الإحالة هي من الأشكال الصريحة للتناص، غير أنها لا تعرض النص المحيل عليه، بل تحيل القارئ عليه دون استحضاره حرفيا.

أجل للنصوص المكثفة لغة و فكرا سلطة، و هيبة لا تقاوم يحدث أن تفرض منطقها، فيجد الكاتب نفسه مكبلا بخيار وحيد. في مثل هذه الحالات ما عليه إلا الاستجابة لذلك. ربما هذا ما حدث للكاتبة و هي تبحث عن عنوان لنصها.

بالرغم من أن العنوان مستهلك، لكنه يعتبر من العناوين الحيوية، التي حافظت عبر العصور على أناقة الشكل، وعمق المعنى، فضلا عن البعد الرمزي الذي يدفع المتلقي للتأمل في المسافة الفاصلة بين الموت و الحياة، الحب و الكراهية، و بين الوفاء و الغدر، تلك الثنائيات التي ما انفكت تتجدد فينا باستمرار. لذا مهما كانت الطريقة التي اختير بها العنوان، فإنه محفز حقا و مستفز، و يثير شغف المتلقي للقراءة.

استوقفتني الإهداء، نظرا لما تضمنه من اعترافات بفضل الأم، صاغتها الكاتبة من تلك القدسية التي خص بها الله الأمهات، إذ تناولت ذلك ضمن سياق لغوي، طغى عليه الخطاب الشعري، وأنت تقرأ تلك العبارات العذبة، تشعر كأنك تنسكب في إناء بلوري، و هذا ما جاء في الإهداء:

إليك … أمي

يا قصة عصية على الكتابة..

يا أجمل حكاية…

يا رواية القلب الوحيد..

و حب العمر…

الأول و الأخير.

أمي…

على استحياء آتيك…

أتعثر في خجلي…

لأسكب في بحر عطائك…

هذه القطرة.

تناولت الكاتبة في قصتها ظاهرة اجتماعية، واكبت حياة البشرية منذ الأزل، و ما تزال تهيمن على المشهد الإنساني بكل ما فيه من تفاعلات، بل ظلت تحتل الشطر الأهم منه، حيث تمحور الصراع في القصة حول الحب، و ما يفرزه من شوق و اشتياق، و ما يترتب عن ذلك من وفاء حد النذر، و خيانة، ومكر، وغدر، و…و قد أخبرنا التاريخ أن أغلب تطلعات العشاق، التي اتسمت بهيام جنوني، سرعان ما انتهت بالفشل، و هذا راجع أساسا إلى تدخل أطراف أخرى في العلاقة بينهما، قصد تكريس ظلم العادات و التقاليد، التي عادة ما تفرض منطقها بشكل ما، و لعدة أسباب تحتكم إلى التناقضات، فتحُول بذلك دون تحقيق سعادة العاشقين.

مذ كان الحب و هو محل منازلة، و ما الصراع الذي جرى بين قابيل و هابيل إلا بسببه، ذلك الصراع الذي انتهي بأول جريمة قتل على الأرض، و قد تطرقت الكاتبة إلى ذلك بأسلوب مفعم بالحيوية، و سلس لكنه يفوح بالحسرة، أفضى بها في النهاية إلى نقل صور حية إلى المتلقي، ذات معان و دلالات، لا تخلو من البعد الرمزي، تمثل ذلك في توظيف بعض الألفاظ المتداولة منذ القدم والتي ما تزال صالحة إلى يومنا و ستظل كذلك، كونها ترمز إلى جانب مهم يتعلق بحياة الإنسان. إن أجمل العبارات التي جاءت في النص على لسان البطل أذكر مثلا:

ـ ( سوف أحبك حتى ينتهي الحب… لم ينته الحب و لكنّا انتهينا ) … ص 02

( قطعة سكر أم قطعتان، ولا واحدة. وجهك يقابلني، كيف اعتذر منه لو أضفت السكر)؟… ص02

ـ في غيابك يا امرأة نذرت لقلبها ما تبقى من نبض قلبي، يصبح هذا الزمن جشعا مثل ثعبان يبتلع أطراف العمر بنهم، و دون رحمة… مذ رحلت و القلب فراغ إلا من صدى نظراتك، لفتاتك، إلا من شذى عطرك المسكر،/ إكسير النشوة/ و صوتك الشهي….. ص01

ـ آه .. يا امرأة هي كل النساء، لا أزال ألمحك هناك…. بعيدا على مد الألم، حلما مسربلا بالنور في كل ليلة أسرج خيول الوهم، و أركض نحوك كظامئ يطارد قطرة ماء….ص01

وظفت الكاتبة في سياق كلامها ألفاظا مكرسة مثل: مداد الروح، الثعبان، و القلب، السرج الخيول

إن المتأمل في قصة عش أنت، تجذبه تلك الألفاظ التي وردت في النص، و التي حدث أن وظفت في الأدب العربي القديم والحديث و المعاصر دون انقطاع، الفصيح منه أو الأدب الشعبي، نذكر على سبيل المثال ما يلي:

قال المتنبي:

جرح في ظهر الخيل تحت السرج متداري *** لا الخيل تشكي و لا الخيال داري

و قال الزبير في الحية ( الثعبان):

عجـــــــبت لما تصــــــوبت العقــــــاب إلى الثعبان و هي إليها اضــطراب

و قال أحد شعراء الشعر الشعبي:

شد السرج يا راعي الخيل شـــــده و اصعــــد على صهوة جواد سبوقي

إن من يقرأ قصة عش أنت يدرك القيمة الفنية للنص الأدبي، و يقتنع أن للكاتبة آسيا رحاحلية إمكانيات لغوية هائلة، و قدرة على مزج اللفظ بالمعنى، هذا فضلا عن خيالها الخصب، الذي أرغم المتخيل على التواضع أمام قلمها، و الانحناء في حضرة أسلوبها المشوق. أعيب عليها فقط الانسياق خلف الجرس اللغوي، مما جعل النص يأخذ منحى الخاطرة. تحية للكاتبة.

جايلي العياشي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Watch Dragon ball super